المطوِّر الرئيسي.. وصناعة السياحة

 

 

عمَّار الغزالي

تُمثِّل قِصَّة "الملك الأعرج ذو العين الواحدة"، الذي أتَى بفنانيْ مَمْلَكته ليرسموا له صُورة شخصية لا تُظهر عيوبه، حال عددٍ من قطاعاتنا الاقتصادية اليوم؛ ففي حين استَعْصَت الفكرة على 99% من أبطال القصة، قَبِل واحدٌ فقط بالمُغامرة؛ فتخيَّله صيَّاداً يَحْمِلُ بندقيته مُغمضَ العين ومتكئًا على إحدى قدميه. وفيما وُصِف هذا الفنان حينها بالحذاقة، إلا أنَّ الأمر في حقيقته مُجرَّد تحايُل على الواقع ومُجافاة للحقيقة.. وهو ما يُمكن اعتباره مُطابقًا في أبعاده لحال قطاع تُفتَرَض أهميته كقطاع السِّياحة لدينا؛ ففي حين تتجمَّل مسقط في مهرجانها السنوي، وصلالة في خريفها المُوسمي، ويتلألأ اسمهما في سماء السياحة العالمية، يُفاجأ المواطن بعدما ينفضُّ السامر، بواقع على غير ذي صِلة بما كانت عليه العاصمة طيلة 24 يومًا أو يزيد، ولا صلالة التي تهدأ شوارعها بعد موسم مليء بصخب زائريها الذين يلملمون أغراضهم مودِّعين أرض اللُّبان بانتظار مُغامرة جديدة في العام التالي.

وحقيقةً.. ما زلتُ أتساءل - كغيري بالتأكيد - عن مكامن الخلل، ومواضع الضعف الخدماتي التي نصطدم بها كلَّما يَممنا وجوهنا شطر الداخل لقضاء العُطل أو الإجازات؟ وهل من المعقول أنّه وإلى الآن لم تتخطَّ "السياحة" لدينا مفهومها التقليدي المتوقف نموُّه عند مُجرَّد الترفيه أو الاحتفاليات والمهرجانات والفعاليات المُوسمية؟ وهل رؤانا لم تستطع بَعْد أن تتوصَّل لقناعة بأنَّ تلك الصناعة الكبرى لها أدواتها وآلياتها ومُقوِّماتها، وتحتاج لبيئة جاذبة ومفتوحة، بعيدة عن التعقيد والتردُّد؟! وما الذي ننتظره ونحن نستقبل مرحلة اقتصادية جديدة مليئة بالحراك لتنويع مصادر الدَّخل، والاستفادة من كل مقوِّم على هذه الأرض لإحراز نقاط مُتقدِّمة على مؤشر التنافسية؟ وهل المُبادرات التي خرج بها "تنفيذ" لإيجاد حلول خارج الصندوق ستجد الاستجابة المرجوَّة لإحداث الفارق فعلاً على أرض الواقع فيما يمس هذا القطاع؟!

إنَّ جُملة من المشاهد التي لا يُمكن لعين أن تُخطئها، تجعل فكرة "السياحة المستدامة طوال العام" حديثاً ذا شجون؛ فالحدائق والمتنزهات العامة التي تنتعش -قليلًا- وقت مهرجان مسقط، والكرنفال الخريفي في الجنوب، ثم تندثر عن المشهد ويغيب عنها مرتادوها لضعف خدماتها، تجعل من تطويرها -بل وزيادة أعدادها- بتفكير استثماري ذي مردود تجاري، ضَرُورة مُلحَّة، تستدعي التذكير مُجددًا بالتطوير ليس فقط على مستوى البُنى الأساسية، ولكن بابتكار فعاليات تجتذب الجميع؛ إذ لابد أن يكون هذا البساط الأخضر حيًّا بالعروض والكرنفالات الشعبية طيلة أيام السنة؛ بما يتناسب مع خصوصية كلِّ موسم، مما يفرض ضرورة أن تتفتق الذهنية القائمة على الأمر بضرورة تأسيس شركات تطوير متخصصة لإنجاح التَّجربة.

والأمر كذلك بالنسبة للموروث العُماني الثري مُمثلاً بالمباني الأثرية كالقلاع والحصون والأحياء القديمة، ذات القيمة التاريخية والحضارية بخصوصيتها المُتفردة، وأن تتم الاستفادة منها اقتصاديًّا؛ إذ لماذا تخرج دائمًا مُسلَّمة تطوير المناطق المحيطة بها لاستثمارها كنوع من السياحة الثقافية من الحسابات؛ علمًا بأنَّ تكلفة الترميمات والتحسينات لن تكون عَقَبَة بأية حال؛ فالحديث هنا عن مبانٍ لا تتعدَّى الدور أو الدورين، ولا يوجد أيَّ مانع إطلاقاً في أن توكل مهمة ذلك أيضًا لمطوِّر مُستقل في إطار "الشراكة التنموية".. ولا تُخطئ سهام التساؤل وعلامات الاستفهام أيضًا الأسباب وراء نُدرة المجمَّعات المتخصِّصة، وعدم الاهتمام بها؛ فمجمع للمعرفة مثلاً يجمع دورًا للنشر ومكتبات ومطابع وآخر يجمع كل ما يتعلق بالتصميم والبناء والديكور مثلاً وهكذا.....، أما مدينة العرفان القابعة بقلب العاصمة فلم تنل كذلك القسطَ الكافي من الاهتمام والتطوير. والأمر نفسه مع المنطقة الواقعة بين شاطئ العذيبة ومشروع الموج مسقط، شواطئ ساحرة لا يُدرى أسباب هجرانها، رغم أنَّ الموقع حيوي جداً، وأي دراسة جدوى لهكذا موقع بطبيعة الحال ستكون مُغرية للمستثمرين!.

وإنْ كانت تلك هي حال مسقط العامرة، فإنَّ الواقع في بقية المحافظات مُؤلم حقًّا؛ سيما إذا وضعنا بالاعتبار الأبعاد التاريخية والحضارية؛ والتنوع الثري. فإنْ كانت الجهات المعنية لا تجد مكانًا بين جدول أعمالها لتلك المهام؛ فإنَّ تأكيدنا يتجدَّد على ضرورة إيكال الأمر لمطورين رئيسيين مُستقلين مُتخصصين، على أنْ تنبني عُقود الشراكة على خُطط واضحة للمشاريع السياحية، وبرنامج زمني ومالي "غير فضفاض"، يُمكن المساءلة بناءً عليه حال أيّ تأخير أو إخفاق، مع عدم إغفال مسؤولية الترويج السياحي وتصميم برامج تسويق تتم بالتعاون بين شركات الطيران، والنقل السياحي.

إنَّ التطلُّع لإنماء سياحي دائم يليق بمقوِّماتنا يحتاج جَهْدًا أكبر من الحاصل حاليًا، وهو ما لا يستطيع مُطوِّر رئيسي واحد مُتابعته مهما كانت قدراته، وإلا سيصطدم إما بترتيب أولوية تنفيذ المشاريع وتأخير أو إلغاء بعضها، أو إلى تضخيم الجهاز الإداري لدرجة تتأخر معها المشاريع تلقائيًّا، وبالتالي لا يستطيع الشريك الجديد التَّعامل مع الجهة ذات الاختصاص بمرونة ونسقط في فخ البيروقراطية من جديد؛ فتٌفوت الفرصة على اقتصادنا الوطني في تحقيق الاستفادة المرجوَّة.

وليس ندبًا للحظوظ ولا مجالاً لتبادل عبارات اللوم، التذكير بأنَّ تحرُّكًّا كهذا كانت مردوداته الاستثمارية أوقات النمو والازدهار الاقتصادي ستمثِّل فرصة ثمينة لاستقطاب رؤوس الأموال العملاقة، وأنَّ أقل جهد حينها كان سينجح في جذب مستثمرين وتكوين شراكات وإنجاز مشاريع. وإنما الإتيان على ذكر ذلك مُراده مراعاة تحقيق أعلى درجات الاستفادة، وتدارك أخطاء التراخي الماضية، خصوصاً وقد تغيَّرت تماماً حِسبة تكلفة الفرص البديلة للمُستثمر، وأنَّ عرضاً روتينيًّا جافًّا وهشًّا للفرص الواعدة حتماً سيبوء بالفشل الذريع. وعلى الجميع أنْ يعي أنَّ عصرًا لتخصيص هكتارات استثمارية لأفراد لا يملكون الخبرة الكافية أو لشركات شبه وهمية خالية من سَابِقَة أعمال، قد ولَّى بلا رَجْعَة، بل وأصبح الكثير من علامات الاستفهام تُثار حول هذه الطريقة، وحتى مُجرَّد فكرة الإعلان عن مزايدات عامة من خلال توفير الرسم المساحي فقط وتعليق آمال خيالية على المستثمرين أصبحَ جزءاً من التاريخ. فلغة الواقع لم تَدَع أمامنا خيارًا سوى إعادة ترتيب الأوراق لإدراك ما فات؛ والشروع بشكل عاجل لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وإيجاد تسويق استثماري إبداعي يعرض أفضل الفرص بأفضل الطرق المُمكنة، فالمخزون السياحي لدينا كبير جدًّا، وينقصه فقط من يُقدِّمه للعالم بإبداع.

ويبقى القول بأنَّ "متلازمة الجدية والتحرُّك السريع" لابد أن تكون حاضرة وبقوة في رحلة تأسيس كيانات ديناميكية جديدة لمطورين رئيسيين (master developers)، والمسؤولية بطبيعة الحال ليست محصورة على وزارة السياحة إنّما تتأتى ببرنامج متكامل وفق خارطة طريق واضحة لتأسيس شركات تطوير تعرض الفرص كما ينبغي لضمان استقطاب استثمارات جديدة، ولترى المشروعات المستقبلية النور وفق برامج زمنية ومالية واضحة؛ كمطلب مرحلي مهم للغاية.. وللحديث بقية.

ammaralghazali@hotmail.com