لكي لا نقع في الهاوية!

 

 

عمَّار الغزالي

ضيفًا على مُحاضرة الجمعية الاقتصادية العُمانية، الأسبوع الماضي، ناقش عملاق الاقتصاد د.عبدالعزيز محمد الدخيل وفنَّد تحديات التنويع الاقتصادي في "دول مجلس التعاون الخليجي" كمسرح مَكَاني للنقاش. وقَطَع الدخيل بما لا يدع مجالاً للشك بأنهُ وإنْ كانتْ الأثافي عند العرب قديمًا ثلاثًا، فإنها اليوم - وفي منطقة الخليج تحديدًا- باتتْ واحدة؛ يُمثلها برميلٌ من الخام الأسْوَد، يحمل فوقه "قُدُوْر الاقتصاد"؛ فإذا ما اشتعلتْ أسعاره، نَمَت المعدلات، وازدهرت الأرقام، وبات الجميع يرفلون في أثواب الرخاء. وإذا ما خفُتَت، تكشَّفت حقيقة الإناء الفارغ من الخطط والاستراتيجيات.. إنَّها أشبهُ بقصة العجوز الفقيرة -على عهد أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب- التي كانت تُسرِّي عن أبنائها الجَوْعَى بوِعَائها الفارغ، فوق حَطَبٍ مُشتعل، في ظلام دامس؛ فيغلبُهم النعاس فينامون.

فما أفصحتْ عنه تقارير الفترة الماضية من تزايد مُؤشرات النفط واستقرارها نوعيًّا، نال من عَزْم بعض الحكومات، وقلَّص استعدادَ سكان بعض الدول لتحمُّل آلام التقشّف، بعد انحسار حجم الضغوطات؛ فتراجعت حِزَم الإجراءات إلى مرتبة مُتأخرة في سُلَّم الأولوية، اللَّهم إلا قرار "ضريبة القيمة المضافة"، ذاك الجنين الآخذ في التشكّل بصورة مُتسارعة؛ لإقراره وتطبيقه مَطلع العام المقبل.. وفي غفلةٍ من زمن الحُكومات، تناسى الجميع -أو تناسَوا- أنّ "التنويع" أو بمعنى أشمل "الإصلاح الاقتصادي" ليس غاية في ذاته؛ بل هو وسيلة لتحقيق التقدُّم، وبناء نظام اقتصادي واجتماعي يكتسب استقراره بتعظيم كفاءة المقدِّرات والصناعات الوطنية، وفق سياسات تستوجب المراجعة على الدوام؛ فاستنساخ النموذج الغربي بكليته خطأ، بحكم أن النظريات الاقتصادية الغربية ونماذجها الاقتصادية الحديثة قائمة على قاعدة سياسية اجتماعية مكتملة - أو على الأقل قوية- بخلاف واقعنا السياسي والاجتماعي.

وعلى الرَّغم من أنَّ الحديث عن مُواصلة الإصلاح وضرورته في تحسين كفاءة واستدامة النشاط الاقتصادي، بات يُمثل مادةً مكرورةً، إلا أنَّ ما يبدو من افتقاد الحكومات للرؤى غير التقليدية، و"الجرأة" في اتخاذ القرار، جعل منها فرضية يجب أن تُطرح بين الفينة والأخرى من باب "لعلَّه يتذكَّر أو يَخشَى".

وعلى كلّ، فإنَّ معرفة مكامن الخلل، تُمكِّننا من فك "شيفرة" التنمية أحادية المصدر في منطقة الخليج؛ فالارتكان للنفط كثروة تسبح فوقها دول المجلس؛ تغترف منها ما تشاء وقتما تشاء، عطَّل الإنسان الخليجي وأضْعَف الكوادر الوطنية، فابتلينا بـ"عُقدة الخواجة"، وتنامت أرقام العمالة الوافدة لمستويات نسمع عنها للمرة الأولى، في مقابل طابور طويل من المواطنين الباحثين عن عمل، أظهر هُلامية خطط "توطين الوظائف" التي يصْدَح بها المسؤولون ليل نهار، وزادت الضغوطات المالية وارتفعت العجوزات؛ لسبب بسيط وهو أنّ هذه الخطط انبنت في الأساس على "الإنفاق الحكومي"، كأساس يتنافى شكلا وموضوعاً مع صوابية الأهداف المفترض أن تؤدي إليها. وإنْ كان فرصة العودة عن هذه الخطط مُتاحة الآن، إلا أنَّ أحد مثالبها سيحتاج سنوات من العمل لتداركه؛ حيث إنَّ اتساع تلك الفجوة لم يسمح للمواطن حتى أنْ يصوغ مفردات خطط تنمية وطنه، فكان "الأجنبي" هو المدوِّن لتفاصيلها وفق رؤى هي بالفعل "جيدة" ولكنها لا تتناسب وتلك البيئة بخصوصيتها التي لن يُدركها إلا أبناؤها فـ"أهل مكَّة أدرى بشعابها"، وبات الأمر مجرَّد استنساخ لنماذج غربية "فقط لا غير"، ومادة للتغنِّي بـ"أضخم خطة" و"أكبر إستراتيجية في تاريخ البلاد".

الأمر لا يقف عن هذا الحد، فقد بَدَت للعيان ثقوبٌ كبيرةٌ في جعبة "ترشيد النفقات"؛ فالإنفاق الحكومي في الخليج - ومع الأسف- ينظر للبناء النَّوعي فقط على حساب المخرجات، حتى القطاعات التي تحوز أعلى نسب في مُخصَّصات الميزانيات كالتعليم والصحة مثلا، لم نجنِ منها اليوم سوى المباني المتراصَّة هنا وهناك، ولكن: أين المخرجات الفعلية للتعليم؟ وماذا عن أعداد الخليجيين الذين يقصدون بلدان العالم للحصول على فرص علاج ورعاية أفضل؟ لا أحد يُجيب. فهل نعاني أزمة أفكار، أم أنَّ هذا نتيجة حتميَّة لحلقة وصل مفقودة بين "التشريع" و"التنفيذ" حتى يخرج القرار ملبِّياً لحاجيات المستهدفين؟!

واليوم.. يقف المواطن الخليجي مُترقِّبا لما ستفصح عنه الأيام المتبقية من عُمر هذا العام، من قائمة طويلة تندرج تحت عنوان "الضريبة المضافة"؛ صحيح أنَّ الضريبة أداة (إذا ما أُحسن استخدامها) لتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أنَّ تاريخاً حافلًا بالسياسات الضريبية في الخليج يَشِي بغير ذلك، بعدما ابتعدت عن كونها أداة للعدل الاجتماعي، إلى وسيلة ليزداد بها الأثرياء ثراءً، بينما يتلظى ذوو الدخل المحدود بنيرانها، وهي بالطبع فرصة سانحة لأن يضع المسؤولون على رأس اهتماماتهم وهم يصوغون القانون الجديد مُراعاة الفوارق المجتمعية لتكون النتائج "عادلة".

إنَّ سياسات "التغيير" كمُنتج لمَوْسم الأزمات، تُعدّ العمود الأول من "أعمدة الإصلاح"؛ كضمانة لتحقيق الاستدامة، والاستفادة القصوى من الثروات بتفكير واقعي ورؤى خارج الصندوق، تستهدف ابتداءً تهيئة المواطن ليكون شريكاً في النهوض. كما يَفرض الواقع ضرورة تشكيل لجان متابعة لمناقشة أي نَقْد يوجَّه للخطط، وأخذه بعين الاعتبار؛ تفعيلا لمبدأ الشراكة المجتمعية. وأخصِّص هُنا الحالة على عُماننا الحبيبة بأن تستعين في سبيل ذلك بذاكرة التاريخ والجولات السَّامية لمولانا حضرة صاحب الجلالة الذي كان يجوب الوطن بقلب الأب وعقل القائد وأُذن الحكيم، ليستمع لنبض الشارع، فكانت عُمان اليوم هي النهضة والحضارة والتاريخ. وعلى طريقة "الفلاش باك" لحدث قريب، نستحضر مُخرجات حلقة المشاركة المجتمعية ضمن برنامج "تنفيذ"، والتي أخرجت للنور جيلا واعدا وأفكارًا غير تقليدية مثلت نقطة ارتكاز مُهمَّة في عُمر تجربتنا التنموية.

وبالمقابل، تتجدَّد المطالبات بتعزيز سياسات الادخار والاستثمار الوطني، وبناء اقتصاد حر حقيقي يكفل ترشيد السلطات والقضاء على "المركزية" ومكافحة البيروقراطية. وبالتوازي مع ذلك، مَنْح المجالس البرلمانية مزيدًا من الصلاحيات لتترجم رسالتها إلى واقع يزدهر على يد مُمثلي أبناء الوطن ممن منحوهم الثقة. وتسريع خُطى العمل على إصدار قانون شامل لتجريم الفساد، يَضْمن عدالة ناجزة في محاكمة الفاسدين عملا بمبدأ "مَن أمن العقاب.."، وهو ما يتطلب أيضًا رقابة أكثر حسما، وشفافية أكثر دقّة، ونزاهة أعظم أثرا.

... إنَّ الاتفاقَ على أعمدةٍ للإصلاح وترشيد آليات اتخاذ القرار كنهج بنائي، حاجةٌ مُلحَّة أمام دول مجلس التعاون؛ لإيجاد خطوط دِفَاع حقيقية أمام المخاطر والأزمات المتتالية، وبلورة سياسات إصلاح مالية ونقدية، وتعظيم الاستثمار في الإنتاج، وتعميق فكرة التصنيع والتنمية الرأسية، والارتقاء بكفاءة تخصيص الموارد وعدالة التوزيع، لتعزيز الأمن الاقتصادي ولكي لا نقع في الهاوية.. بعيدًا عن استدعاء أشباح الآباء المؤسِّسين لنظرية السوق الحرة؛ بل بعقيدةٍ نقيَّةٍ تُؤْمِن بالأوطان أرضًا وموارد واقتصادًا، والأهم من ذلك تؤمن بإلانسان غاية للتنمية.

ammaralghazali@hotmail.com