آفاق الملكيَّة الفكريَّة (4)

د. يحيى الريامي

الحداثة والتحديث

ظهرتْ الحداثة في أوروبا مع النهضة الإنسية التي قامت على أكتاف الحضارتين: اليونانية والرومانية، مع الاطلاع على الفكر العربي عن طريق الترجمة، والاحتكاك بالعرب عبر مجموعة من القنوات كالحروب الصليبية وطرق التجارة والأندلس وبعض مرافئ إيطاليا كصقلية، وقد تجسَّدت الحداثة الاوروبية إثر انطلاق الاكتشافات الجغرافية واكتشاف أمريكا واختراع المطبعة على يد "يوهان جوتنبرج"، واندلاع الثورتين: الفرنسية والأمريكية، وتطوُّر الفلسفة العقلانية وظهور النظرية النسبية مع "آنشتاين" وتطور الرأسمالية الغربية مع تطور الثورة الصناعية والتقنية، كما ظهرت الدولة الحديثة وحقوق الإنسان والطبقة البرجوازية التي أسهمت في تطوير المجتمع الغربي وتحديث وسائل الإنتاج والاستغلال الاقتصادي والطبيعي، وانتشار الفكر الليبرالي القائم على الحرية والفردية، وخلق الثروة قصد تنمية المجتمع. وقد آلت الحداثة بالغرب إلى نهج سياسة إمبريالية قائمة على الغزو والتوسع في معظم أرجاء العالم قصد نشر الحضارة الغربية الجديدة مقابل استغلال الشعوب الضعيفة، واستنزاف ثرواتها لصالح شعوبها المترفة، فقد كان الأوروبي في إفريقيا على سبيل المثال يقدم للأفارقة الصليب والإنجيل وكان يأخذ منهم ثرواتهم وأرزاقهم.

فالحداثة في الجوهر هي تجديد وإبداع واكتشاف والاستفادة من الماضي مع تجاوزه نحو آفاق مستقبلية رحبة قوامها العمل واستغلال الطبيعة والتحكم فيها واستخدام العقل والفكر البرجماتي، ويمكن الحديث عن حداثة كلاسيكية حتى منتصف القرن العشرين، وما بعد الحداثة التي ظهرت منذ ستينيات القرن الماضي مع التفكيكية والنقدية الجديدة الألمانية والفلسفة العدمية مع "نيتشه" لتقويض دعائم العقل الاوروبي والدعوة إلى اللاعقل والاختلاف والاهتمام بالذات والإنسان والعاطفة والروح والثورة على التمركز الاوروبي.

يقول الكاتب محمد سبيلا -مفكر مغربي- "الحداثة حركة انفصال، إنها تقطع مع التراث والماضي، ولكن لا لنبذه وإنما لاحتوائه وتلوينه وإدماجه في مخاضها المتجدد ومن ثمة فهي اتصال وانفصال، استمرار وقطيعة، استمرار تحويلي لمعطيات الماضي وقطيعة استدماجية له، هذا الانفصال والاتصال تمارسه الحداثة حتى على نفسها؛ فما يُسمَّى بعد الحداثة لا يمثل مرحلة تقع خارج الحداثة وبعدها وإنه أقرب ما يكون إلى مراجعة الحداثة لنفسها لنقد بعض أسسها وتلوينها، فإذا ما غلب على دينامية الحداثة منطق الفصل والقطيعة، فإن ذلك وسم المراحل الظافرة للحداثة في ذروتها لتعود إلى توسيع وتليين آليتها ابتداء من منتصف القرن العشرين".

وإذا كانت الحداثة تعني التجديد والإبداع وتجاوز التقليد والتخلف، فإنَّ التحديث هو "مجموعة العمليات التراكمية، التي توجه المجتمع نحو المزيد من الإنماء والتطور والتقدم، ويكون ذلك اقتصاديا بتعبئة الموارد والثروات، وتطوير قوى الإنتاج، وسياسيا ببلورة دولة المؤسسات، القائمة على تحرير تقاليد الممارسات السياسية من أجل المشاركة في الحياة العامة، واجتماعيا بتأسيس القيم والقوانين والنواميس، وإبعادها عن المواقف العقائدية".

ولقد انتشرتْ الحداثة الأوروبية شرقا وغربا عبر الاستعمار والاستيطان والتوسع الإمبريالى والمثاقفة (التحول الثقافي أو تداخل الحضارات)، والبحث عن الأسواق التجارية والاكتشافات الجغرافية والعلمية. إذاً ما هو السياق التاريخي الذي أفرز الخطاب الإصلاحي إبان عصر النهضة العربية أو منذ منتصف القرن التاسع عشر؟ إذا كانت أوروبا قد عرفت الحداثة منذ القرن الخامس عشر؛ فإن العالم العربي لم يفكر فيها إلا منذ القرن التاسع عشر مع التغلغل الاستعماري الأجنبي وضغوطاته العسكرية والاقتصادية عبر مسلسل من الإصلاحات والتغييرات قصد مواكبة مستجدات الآخر المعنوية والمادية. وزاد الحديث في الغرب‏ (‏وفي بلداننا أيضا‏) عن التحديث في جميع المجالات‏: ‏المجال السياسي ‏(‏الديمقراطية‏)‏، المجال الإقتصادي ‏(‏مزيد من الخصخصة‏)‏، المجال التربوي ‏(‏تعديل المقررات الدراسية بما يتفق مع المعايير الغربية الحديثة‏)، وبدأ البعض يتحدثون عن أن الإسلام بطبيعته معاداة الحداثة، فانبرى بعض المفكرين العرب والإسلاميين للدفاع عن الإسلام ولإثبات العكس، مستنيرين بالبرهان القاطع أن الإسلام بطبيعته ليس معاديا للحداثة، بل يرحب بها ويمكنه أن يتبنى مناهجها وقيَمها في إطار التعاليم الإسلامية السمحة.

-----------------------------

المرجع:

- "الملكية الفكرية والحماية القانونية للمعارف التقليدية الموروثة: التحديات والحلول"، أطروحة دكتوراة.

[email protected]