المُقنّعون الجُدد...!

 

د. صالح الفهدي

 

أخبرني أحد رؤساء أقسام العلوم النفسيّة بإحدى الجامعات أن عددا ممن يشرف على دراساتهم العليا في هذا التخصّص يعانون هم ذاتهم من أمراض نفسية...!! أمر كهذا لا تجهله إدارة الجامعة، ولا يستطيع هو ذاته الاعتراض عليه، لأنّ وظيفته في نهاية المطاف ستكون مهددة...!! فالقضية باختصار هي قضية دخل ماديّ للجامعة لا يمكن التفريط فيه مهما كانت المؤاخذات والعلل التي يتّسم بها الدارسون...!

رئيس قسم آخر في إحدى الكليات أخبرني أنّ مجموعة كبيرة من الطلبة والطالبات لا يبدون اهتماما بالتعلّم، فكلّ همّهم الحصول على شهادة تخرّج وحسب...!

الذين وردوا في المثال الأول سيكملون دراساتهم العليا وسيحصلون على ألقاب علمية باذخة وسيعلقونها على "عيادات نفسية" أو يتجهون إلى أي موقع آخر ليقدّموا النّصح النفسي وهم يحملون عقدا نفسيّة، وأمراضا تشكل عليهم أداء مهنتهم بسلامة قوى ذهنية، وصفاء قدرات نفسيّة...! أما الذين وردوا في المثال الثاني فسيحصلون على الشهادة/ الورقة دون أن يحصلوا على معرفة، وسيتجهون إلى قائمة "الباحثين عن العمل" وهم لا يحملون إلاّ ورقة لامعة...!

التسابق في أوجه للحصول على الشهادات العليا التي يشترى بعضها في الأسواق، ويؤجر لبعضها الآخر بعض المرتزقة، والسماسرة في هذه التجارة الرائجة لم يعودوا مزوّرين وإنما تخرج البضاعة العلمية من بين أياديهم موثقة في سجلاّت أعرق الجامعات العربية والأجنبية...!!

وفي المقابل كليّات أصبحت مثل (البازارات) في تعاطيها مع التعليم من قبيل تسريبها تعمّدا للاختبارات أو دفعها لأي مهمل لاحتفالية التخرّج المرقشة..! وهو لا يعرف ماذا تعلّم فيها لكنّه يستطيع إحصاء ما دفع لها من مال؟!

هؤلاء جميعهم هم "المقنّعون الجدد" الذي سيتبوأون وظائف، ومناصب، ويشغلون شواغر دون أن يمتلكوا المؤهلات الحقيقية...!

إنّ المفهوم الخاطئ للـ"المؤهلات الحقيقية" القاصر على الأوراق ذات الأختام الشمعية، هو أحد أبرز إشكاليات "البطالة المقنعة" التي تعاني منها مجتمعاتنا..! المؤهلات الحقيقية هي قدرة العقل على نهج طرق المعرفة، والتحليل، والنقد، والاستشراف المستقبلي.

المؤهلات الحقيقية هي الاستعداد النفسي للتعامل مع الواقع بكفاءة ومسؤولية، وحذاقة وموضوعية.

المؤهلات الحقيقية هي القدرة على الإبداع واستحداث الجديد من القديم، والابتكار للأفكار والمفاهيم الحديثة قبل الأدوات والعناصر المادية.

المؤهلات الحقيقية هي مقدار ما يمتلكه الأفراد من خبرات عميقة، وليس من فترات طويلة قضوها في العمل ...!

إنّ مجتمعاتنا قد أخلصت في نياتها وأخطأت في اتجاهات تثري بناء الإنسان، لأنّها "قدّست" النسبة التحريرية على القدرات الشخصية، فحكرت التميّز في جانب ما "يحفظ عن ظهر قلب" وقلبت موازين مجتمعات كان يمكن لها أن تستفيد من عناصر بشرية فاعلة، ذات كفاءة وقدرة وملكة لكنّها لا تستطيع أن تتعاطى مع "التعليم البنكي" لأنّها لا تحفظ المعادلات والفرضيات ولا تطيق تطبيقات الرياضيات والقواعد اللغوية وغيرها من المسائل التي ليس لها ارتباط حياتي بواقع البشر...!

مجتمعاتنا أضاعت كوادر عظيمة لأنّها وضعت أمامها ورقة امتحان جوفاء لا تثير التفكير في الممتحن بقدر ما تدلّل على مقدار مخزون الحشو المعلوماتي لهذا العقل الإنساني.. لهذا قصرت مفهوم التميّز على الحفظ لا على الفهم، أمّا في مجتمعات أخرى فإنّ مثل هذه الاختبارات إن أُجريت فإنّها تجرى على أساس "الكتاب المفتوح" الذي يمتحن فيه الطالب، إذ أنّ الفكرة ليست "نسخ ولصق" كما يسود في مجتمعاتنا وإنما الفهم والتدبّر، لهذا كم رسب في مثل هذه الاختبارات وكتابه مفتوح أمام بصره ...! "فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور (الحج:46)..

إحدى المؤسسات امتحنت خريجًا قضى ما يقارب العقد في أوروبا دارسا، امتحنته ورقيا لنصف ساعة، وكان ذلك هو معيارها الوحيد للتوظيف ورفضته، تقدّم إلى مؤسسة أخرى لإعداد قيادات ضمن أربعة آلاف متقدم، وخاض أربع مراحل متنوعة في التقييم النفسي والعقلي والتحريري وعرّض لقضايا واقعية لكي يرى كيفية تعامله مع الواقع وفي الآخير حصل على الوظيفة مع خمسة عشر متقدما من أربعة آلاف...! فرق إذن بين مؤسسة تخدعها معلومات مسكوبة على الورق، وبين أخرى تبحث عن الإنسان في جميع جوانبه...!

مؤسسة أخرى تُعنى بالتعليم أعلنت عن وظيفة للإدارة الوسطى فإذا بها تهمل الجوانب الشخصية، والخبرات العملية، وترتكز على كميّة المعلومات التي أفرغها أفراد مضت عليها سنوات طويلة في السلك التعليمي، هذا المعيار أطاح بأفراد يمتلكون شخصيات قيادية ذات خبرات عملية عميقة...!

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقيّم قدرات إنسان من خلال كمية ما يحفظه من معلومات، فالإنسان في حد ذاته عناصر مركّبة؛ نفسية وفكرية وروحية وجسدية تعمل في انسجام وتناغم لأداء مهمة من المهام.. وهذا ما تفعله بعض الدول كاليابان في تقييمها للخريج الذي قد يلتحق في الشركة قبل نهاية دراسته الجامعية ومعرفة المعدّل/ النسبة إذ يتم تقييمه بشمولية، وكذلك من خلال "مراكز التقييم Assessment centres" التي يعمل بها في بعض الدول المتقدمة. في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تقارب نسبة الذين يتم تنقيتهم للوظائف من خلال هذه المراكز السبعين بالمائة. في هذه المراكز يتم تقييم الأفراد من عدّة جوانب فكرية ونفسية وجسدية، كما يتم وضعهم في مجموعات من أجل التفاعل، وطرح قضايا واقعية لمعرفة كيفية فهمها وتحليلها ووضع الحلول العملية لها.

لقد فقدت مجتمعاتنا اتجاهات أساسية في التنمية البشرية لأنها اختصرتها على "منهجية الكتاب" وكمية المحفوظات، فأهملت ما يتفاوت به الأفراد من قدرات وإمكانيات ومواهب.. فقدت المدارس التجارية، والزراعية، والصناعية، التي كانت ستصنع أجيالا ذات كفاءة عملية في مجال التجارة والزارعة والخدمات والصناعة لسبب واحد هو فقدان الخطط العملية، والمشاريع التنموية التي ينخرط فيها أولئك الخريجون الذين حازوا على القدرات العلمية من أجل تفعيلها في أرضية الواقع...! لهذا اتجهوا إلى وظائف إدارية محقت كل قدراتهم ومهاراتهم العملية، وجعلتهم مجرد كتبة، أو موظفين محصورين بين أربعة جدران...!

نشهد في هذا العصر نشوء ظاهرة "المُقنّعون الجدد" أولئك الذين يتسربلون بأردية العلم. هؤلاء لم يظهروا إلا بسبب مفاهيم وأفكار، فكل ما يظهر على الواقع من مشكلات سببها الأفكار والمعتقدات لهذا يجب مراجعة الأفكار والمعتقدات التي أدّت إلى نشأة ظاهرة "المُقنّعون الجدد" الذين يعيقون التنمية الحقيقية لبلدانهم لأنهم لا يحملون فكرا إبداعيا أصيلا، ولا معرفة عميقة يمكن أن توظّف من أجل الدفع بحركة التنمية الشاملة.

إنّ موجبات التنمية الأصيلة بناء إنسان بناء معرفيا ومهاريًا، فمن الناحية المعرفية يجب أن توسّع مداركه بإطلاق عقله في التفكير والتحليل والفهم والتخيل والإبداع، ومن الناحية المهارية فيجب صقل مواهبه وقدراته وفق قاعدة "كل مخلوق مُيسّر لما خلق له"(حديث شريف).

فإن لم نفعل شيئا إزاء هذه الظاهرة فإننا بلا شك سنكون مجتمعا فارغ المعرفة، "يقدّس" الألقاب، ويعلي "الوجاهات"، وفي المقابل يدني مراتب أهل العلم والفضل والفكر والأدب والفنون الأصيلة والمواهب الخلاّقة. عندها علينا اختراع مفاهيم أخرى لتنمية الإنسان تختلف عن تلك المعروفة في العلوم الحديثة...!!