تعيين نائب لرئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي .. دلالات دستورية وحتميّة سياسية

 

 


د. عبدالله باحجاج


أصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- يوم الخميس الماضي، مرسوما سلطانيا ساميا قضي بتعيين صاحب السمو السيّد أسعد بن طارق بن تيمور آل سعيد نائبًا لرئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي، وممثلا خاصا للسلطان المعظم؛ ولهذا المرسوم دلالات دستورية وحتميّات سياسية ظرفيّة، تمليها مصلحة السلطنة من عدة أبعاد داخلية وخارجية. ولفهم المصلحة الوطنية من تلك الأبعاد لابد من الغوص في مجموعة سياقات موضوعية، والكشف عن دستورية استحداث المنصب الجديد في النظام الأساسي للدولة الصادر عام 1996م.

فهل النظام الأساسي للدولة يستوعب هذا التطور السياسي المهم؟ وما هي أبعاد المصلحة العامة الخارجية حتى تستلزم أن يكون هناك نائب لرئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي؟ تساؤلان يضعان الكثير من النقاط فوق الحروف، ويحيدان الرؤية الفجائية للتطور التي غرقت فيها بعض وسائل الإعلام الخارجية، وهذا يستوجب منّا إخضاع التطور لسياقاته الطبيعية السياسية وللمواد المنصوص عليها في النظام الأساسي للدولة، والتي لن يختلف عليها اثنان.. وهذه قراءة تحليلية، نقدمها إسهامًا منّا في توضيح الرؤية، ونضوج المسار الجديد، بثنائية النائبين؛ دون أن تصادر أية رؤية أخرى قد تتقاطع معها، وهذا ما سنوضحه من خلال الفقرات الثلاث التالية:

     المقتضيات الدستورية لاستحداث نواب رئيس مجلس الوزراء.
     المقاربة الجيوسياسية الجديدة للعلاقات العمانية وتعاونها الدولي.
     تلاقي الشأنين الداخلي والخارجي في ظل ديناميكية متجددة للتعاون العماني الدولي.


    المقتضيات الدستورية لاستحداث نواب رئيس مجلس الوزراء:

الباحث في النظام الأساسي للدولة الصادر عام 1996م سوف يلاحظ أنّ عاهل البلاد حفظه الله قد أرسى دعائم النظام الأساسي للدولة منذ ذلك التاريخ، انطلاقا من فكر سياسي يستجيب لمستلزمات بناء الدولة العُمانية الحديثة، ويتناغم مع مراحلها المختلفة ببعدها الداخلي والخارجي، دون أن تظهر هناك إشكاليات دستورية في استيعاب التطورات السياسية الجديدة في البلاد، وهذا يعني أنّه قد تمّت صياغته برؤية استشرافية بعيدة المدى، فيها تحديد واضح للأهداف الاستراتيجية الكبيرة مسبقا.

وهذا ما نجده في تعيين صاحب السمو السيد أسعد بن طارق نائبا لرئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي، فهذا التطور الهام، قد جاء الآن ليُفعّل مقتضيات دستورية منصوص عليها في النظام الأساسي للدولة، ويتناغم معها في عدة نصوص واضحة، وقطعية، وذلك بعد أن اقتضت دواعي المصلحة العامة تفعيلها زمنيا الآن، ففي الباب الرابع المعنون باسم رئيس الدولة، هناك العديد من المواد التي تشير إلى أكثر من نائب لرئيس مجلس الوزراء، جاءت المادة (45) التي تنص على الأتي: (يتولى رئيس مجلس الوزراء رئاسة جلسات المجلس، وله إسناد إدارة الجلسات التي لا يحضرها إلى أحد نواب رئيس الوزراء) وفي منطوق نص هذه المادة أكثر من نائب لرئيس مجلس الوزراء، وكذلك المادة (50) التي تنص على (قبل أن يتولى رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء صلاحياتهم يؤدون أمام السلطان اليمين التالية: أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا لسطاني وبلادي، وأن أحترم النظام الأساسي للدولة وقوانينها النافذة، وأن أحافظ محافظة تامة على كيانه وسلامة أراضيها، وأن أراعي مصالحها ومصالح مواطنيها رعاية كاملة، وأن أودي واجباتي بالصدق والأمانة) وهذه مادة أخرى تؤكد على تعدد النواب مرة أخرى، والشيء نفسه، نجده كذلك صريحا في المادة (51) التي تنص على الآتي: (يتولى نواب رئيس الوزراء والوزراء الإشراف على شؤون وحداتهم، ويقومون بتنفيذ السياسة العامة للحكومة، كما يرسمون اتجاهات الوحدة، ويتابعون تنفيذها) وكذلك المادة (54) التي تنص (تحدد مخصصات نواب الوزراء والوزراء أثناء توليهم مناصبهم وبعد تقاعدهم بمقتضى أوامر من السلطان).

تلكم النصوص تدلل بصورة لا لبس فيها ولا غموض على إرادة المشرّع الدستوري العماني - الذي هنا هو عاهل البلاد حفظه الله – على وجود عدة نواب لرئيس الوزراء؛ بمعنى آخر أكثر من نائبين، وفق منطوق تلك المواد، فلو كانت الإرادة التشريعية تتجه نحو نائبين، لحصرتهما في دلالة لفظية قطعيّة، وهذا يعني أنّ تلك المواد الدستوريّة تستوعب كذلك تطورات سياسية جديدة إذا ما اقتضت المصلحة الوطنية ذلك في حتميّاتها الزمنيّة المناسبة، بدليل تكرار مفردة "النواب" في كل تلك المواد، بل حتى منصب رئيس الوزراء نفسه، يستوعب التطور السياسي المقبل وفق مبدأ الحتمية الوطنية، بدليل نص المادة (42) الخاصة بمهام السلطان، فقد حددت هذه المادة مجموعة مهام للسلطان، من بينها تعيين رئيس مجلس الوزراء حيث تنص حرفيا: "لو عيّن السلطان رئيسا لمجلس الوزراء، حُددت اختصاصاته واختصاصاته بمقتضى مرسوم تعيبنه"

وتلكم المواد، تدلل على استشراف الهندسية الدستورية لاحتياجات البلاد المستقبلية من الاستحقاقات السياسية للدولة العمانية الحديثة، وهذه الهندسة تحسب لها الآن مدى وحجم رؤيتها النافذة والعميقة في استيعاب التحديات والإكراهات؛ وبالتالي فإنّ تعيين نائب لرئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي يدخل في صلب هذه السياقات الدستورية، وليس قفزًا فوقها، وهذا يعني أنّ النظام الأساسي للدولة قد تمت صياغته بصورة تستوعب ضروريات البناء السياسي للبلاد حسب ما تقتضيه المصلحة العامة، بدليل تلك المواد الدستورية العديدة التي تتحدث عن منصب رئيس الوزراء خارج المؤسسة السلطانية - بنصوص صريحة - وكذلك عن نواب وليس نائبا واحدا أو نائبين لرئيس مجلس الوزراء، وبالتالي، فهذه النصوص الصريحة تضع استحداث نائب جديد لرئيس الوزراء– كما أشرنا سابقا - في سياقاتها الدستورية والطبيعية وفق المصلحة العامة؛ لكن ماذا عن سياق التعيين نفسه، فما عن محدداته؟ وكذلك سياقاته السياسية؟


    المقاربة الجيوسياسية الجديدة للعلاقات العمانية وتعاونها الدولي:

هناك مجموعة من التساؤلات التي تطرح هنا في شكل افتراضات أو فرضيات زمنية لاستجلاء كذلك خلفيات استحداث النائب الجديد ومبررات التعيين، أبرزها: لماذا تمّ تفعيل تلك المواد الآن؟ وكيف، ولماذا، خص التعيين ملف العلاقات والتعاون الدولي؟ الإجابة عن مثل هذه التساؤلات، سيظهر لنا التعيين طبيعيا في توقيته وفي استهدافاته السياسية، كيف؟

من المعلوم أنّ العالم وخاصة منطقتنا الخليجية بعربها وفرسها تشهد تحولات سريعة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، مما يفرض على السلطنة أن تولي علاقاتها وتعاونها على الصعيد الدولي من منظور براغماتي لخدمة تنميتها الوطنية، انطلاقا من قناعتها الثابتة في إقامة شراكة حقيقية يكون الجميع فيها رابحا، وقد شهدنا خلال الشهور القليلة الماضية، نجاح السلطنة في تطوير علاقات استثنائية مع دول المنطقة بما فيها إيران والسعودية، وما انضمام السلطنة في أواخر ديسمبر عام 2016 إلى التحالف الإسلامي العسكري بعد أن توصلت إلى فهم مشترك مع الدول الإسلامية وعلى رأسها السعودية على أهميّة تحقيق السلام والأمن والاستقرار في المناطق التي يسودها العنف والإرهاب بعد سنة من التحفّظ على هذه المشاركة؛ إلا نموذجًا نقدمه للاستدلال به على النقلة الاستثنائية في العلاقات العمانية وتعاونها الإقليمي والدولي المقبل، وقد كان بيان وزارة الخارجية العمانية شفافًا في هذه المسألة على وجه الخصوص، وذلك عندما قال إنّ مسقط سوف تبذل كل الجهود مع الأشقاء والأصدقاء لتوفير بيئة إقليمية يسودها الأمن والسلام في هذه المرحلة التي يتوجب فيها تعاون كل الأطراف لتحقيقها، ماذا يعني لنا ذلك؟

يعني تعاظم التعاون العماني الإقليمي والدولي من أجل تحقيق الأمن والسلام من خلال جهد إسلامي وعالمي، فالتعاون الدولي المتعاظم لن يقتصر على المجالات التقليدية المعروفة سابقا أي الاقتصاد والثقافة والسياسة، وإنّما سيكون متعددًا أمنيا عن طريق تبادل المعلومات الاستخبارية بين (41) دولة إسلامية وكذلك بين أصدقاء هذه الدول، وقد يكون تعاونًا عسكريًا إذا لزمت الضرورة، إذن، ملف التعاون العماني الدولي بهذه الحمولة المتعددة الأغراض والاتجاهات المكانية، يقتضي رفع مستوى الإشراف عليه، ومن هذا السياق، فإنّ المصلحة العمانية تقتضي تعيين شخصيّة تجمع بين الخبرتين العسكرية والسياسيّة، وهو ما وجدته الإرادة السامية في شخصية صاحب السمو السيد أسعد بن طارق بن تيمور آل سعيد الذي تأهل أكاديميا من أعرق الكليات العسكرية العالمية "سانت هيرست" وعمل في المؤسسة العسكرية العمانية لسنوات عديدة، تقلد فيها أرفع المناصب القيادية، كما مكّنه العمل السياسي كممثل خاص لجلالة السلطان المعظم، وكذلك العمل الحكومي من خلال ترؤسه للجان ومؤتمرات عديدة، مكنه من خبرات محلية ودولية، أوصلت سموه الآن إلى الإشراف على ملف العلاقات العمانية وتعاونها الدولي، ليس من منظوري التعاون العسكري والأمني فقط، وإنما كذلك من منظور مدى استفادة تنميتنا الوطنية من تعاظم علاقاتها وتعاونها الدولي في مرحلة تحولاتها الاقتصادية الجديدة، وذلك بعد أن نجحت مسقط في توظيف سياستها الخارجية في التوسط لحل النزاعات الإقليمية، وتجنيب العالم مخاطر انفجارات عديدة؛ وبالتالي فإنّ مثل هذه السياقات، تحتم إدارة رفيعة المستوى لملف التعاون العماني الدولي، وقريبة من صانع القرار خلال المرحلة الراهنة بالذات، وكذلك لدواعي أن تصب كل مساعي وجهود الوزارات المختلفة التي تعنى بالتعاون الدولي - وما أكثرها - تحت إشراف سلطة واحد وموحّد، يبعد البيروقراطية المعرقلة، ويجعل اتخاذ القرار رأسيا وليس أفقيا، وموحّدًا وليس متعددًا، وسريعا وليس بطيئا، خاصة في مجال جذب الاستثمارات التي يتوقف عليها نجاح برنامج التنويع الاقتصادي الذي يعتمد على 80% من استثمارات القطاع الخاص المحلي والأجنبي.


    تلاقي الشأنين الداخلي والخارجي:

من خلال ما تقدم، نلاحظ مدى تقاطع الشأنين الداخلي والخارجي في ملف العلاقات والتعاون العماني الدولي، بحيث لا يمكننا أن نفصل بينهما الآن بعد التطورات التي طرأت على السياسة العمانية الجديد، وديناميكيّتها المُتجددة، وآفاقها المقبلة، وتحولاتها الجديدة؛ وبالتالي فقد جاء استحداث منصب جديد لنائب رئيس الوزراء وتعيين صاحب السمو السيد أسعد بن طارق بن تيمور آل سعيد طبيعيا في خضم تلكم السياقات السياسية والدستورية، ومتناغما مع آليات وميكانيزمات التطوّر والإصلاح في سلطنة عُمان، وهذا التلاقي قد أكدنا عليه من خلال مواد أساسية في النظام الأساسي للدولة، وكذلك البراغماتية المفترضة التي ينبغي أن توظف الديناميكيّة المتجددة للتعاون العماني الدولي لصالح تنميتنا الوطنية، في ضوء توجهات البلاد نحو الانعتاق من تبعية اقتصادها المطلقة على النفط؛ لذلك فهي بحاجة لهذا التعاون الدولي في جذب الاستثمارات وزيادة علاقاتها الاقتصادية وفي تأهيل أبنائها، مما يمكن أن نطلق على هذا التطور السياسي بأنّه مفصلي، وأن نتائجه متعددة ودائمة.

وفقكم الله صاحب السمو السيد أسعد بن طارق بن تيمور آل سعيد في هذه المهمة الوطنية الرفيعة المستوى، تحت ظل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله رعاه- ونسأل الله عز وجل أن يمن على عاهل البلاد بالصحة والعافية، وأن يمده بالعمر الطويل، ونسأله كذلك أن يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين، وأدم اللهم علينا نعمتي الأمن والاستقرار.. اللهم آمين.