انتشال منظمات المجتمع المدني العربية من واقعها المُشين

 

عبيدلي العبيدلي 

باعتراف نسبة عالية من الجهات التي تتابع أنشطة منظمات المجتمع المدني، أو تلك المنخرطة معها في أنشطتها شهدت "سنوات العقد المنصرم توسعاً مذهلاً في حجم ونطاق وقدرات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم، مدعوماً بعملية العولمة واتساع نطاق نظم الحكم الديمقراطية، والاتصالات السلكية واللاسلكية، والتكامل الاقتصادي". وعلى مستوى عدد تلك المنظمات، تقر "حولية المنظمات الدولية"، بالزيادة الملحوظة في "عدد المنظمات غير الحكومية الدولية من 6000 عام 1990 إلى ما يزيد على 50 ألفاً عام 2006. وأصبح لمنظمات المجتمع المدني دور بارز في تقديم المساعدات الإنمائية على مستوى العالم؛ حيث يشير تقرير منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي إلى أنّ هذه المنظمات قدمت مساعدات تقدر بحوالي 15 مليار دولار أمريكي من المساعدات الدولية حتى عام 2006". 

كل ذلك يعني أنّ دور منظمات المجتمع المدني في الحراك المجتمعي بات يفرض نفسه، سواء بحكم النمو المتزايد في العدد، أو نسبة المشاركة في المشروعات، ويرجع الفضل في هذا النمو العددي والانتشار الوظيفي، وكما يلحظ الكاتب حافظ إبراهيم "إلى تنامي قدرة المجتمع وجماعاته على الاستمتاع بشكل عادل بإمكانيات البلاد وقيمها على أساس مبدأ المواطنة دون غيره والتحرّك بشكل مستقلّ عن الدولة وأجهزتها التي يتقلّص دورها المهيمن. فالديمقراطية والمشاركة والتنمية ليست فقط عملية تصويت في إطار ممارسة انتخابيّة شكلية، بل هي كلّ ما من شأنه تأمين المشاركة المستمرّة في آليات اتخاذ القرار والتنفيذ ميدانيا". ويخلص إبراهيم من هذه الملاحظة إلى أنّ "معطيات الواقع (تشير إلى) قيام علاقة طردية بين مستوى النموّ الاقتصادي وأشكال توزيع السلطة وأساليب التسيير. إذ النموّ يتراجع عندما يزداد التباين في الدخل نعم ولكن أيضًا عندما يكون هناك نزوع لاحتكار سلطة اتخاذ القرار وعدم ترك هامش كاف لمؤسسات المجتمع للمشاركة في مسارات التنمية تصوّرا وتنفيذا مما يؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي بعد فقدان الثقة. فينخفض الاستثمار ويتباطأ النموّ الاقتصادي على الهيئة نفسها التي كان نبّهنا إليها ابن خلدون في مقدّمته حين تحليله لأثر كل نمط في علاقة الدولة بالمجتمع على مستوى النمو سواء الاقتصادي أو الاجتماعي والسياسي". 

على المستوى العربي كان هناك اهتمام ملحوظ بدور منظمات المجتمع المدني، وهو أمر انتبهت له البلدان العربية، ولو أن هذا الاهتمام جاء في مرحلة متأخرة مقارنة مع دول أخرى، فوجدنا  القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية  التي انعقدت جلساتها في يناير 2009 في الكويت تصدر قرارا ينص على "تفعيل دور المجتمع المدني في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية وتعزيز الشراكة مع منظماته ومؤسساته، بما يحقق الأهداف التنموية والاقتصادية والاجتماعية في الدول الأعضاء. (ويحث على) دعم جهود منظمات المجتمع المدني العربية، منظمات المجتمع المدني العربية، على الصعيدين الإقليمي والدولي وخاصة نشاطاتها الرامية لإبراز الهوية العربية". 

 لكن رغم كل ذلك نجد أنّ الواقع العربي يشير إلى تراجع دور منظمات المجتمع في التنمية المجتمعية، وأنّ هناك شعورا متزايدا على المستوى العربي "بضمور" دور منظمات المجتمع المدني العاملة في البلدان العربية، وتراجع مساهماتها في التنمية، وخاصة على المستوى السياسي/ الاجتماعي، وذلك بفضل العوامل التالية: 

1. الفهم الخاطئ لمنظمات المجتمع المدني والتوجّس منها، فهي بالنسب للبعض، وكما يقول الكاتب سعيد ياسين موسى تشكل "خطرا على الاستقرار الاجتماعي وعلى الثقافة المحلية كونها نموذجا غربيا ذا ثقافة غريبة". ويرى موسى أنّ هذا الفهم الخاطئ، "ربما يعود الانطباع الخاطئ عن المجتمع المدني إلى التشوهات في تكوينه وممارساته، مثل العمل الواجهي للأحزاب وجهات تتبنى العنف والإرهاب". وتأسيسا على هذا الفهم الخاطئ تعاني هذه المنظمات من حروب شعواء تشنها ضدها منظمات وقوى مجتمعية يفترض أن تكون حليفة لها. 

2. الإمعان في تسييس هذه المنظمات، حيث نجد انتقال الصراعات السياسية المحتدمة بين القوى الحزبية المتنافسة، أو بين البعض منها والسلطات الحاكمة، على نحو مشوّه وغير طبيعي، مما يفقد منظمات المجتمع المدني الكثير من حيويتها التي لا تستطيع الاستغناء عنها لأداء دورها المجتمعي على الوجه المطلوب. يزداد الأمر حدة سوءًا عندما تشتعل نيران المنافسة بين القوى السياسية المعارضة، حينها تسيطر نزعة التسييس التي نشير لها، مما يرغم منظمات المجتمع المدني على التخلي عن دورها الأمر الذي يقود إلى خمولها، كخطوة أولى على الضمور الذي نتحدث عنه. 

3. اللبس غير المنطقي في أذهان العديد ممن يمارسون أدوارًا في أنشطة المجتمع المدني، بين مسؤوليات منظمات المجتمع المدني الاجتماعية، وتلك السياسية. هذه اللبس يقود إلى واحد من أمرين، إمّا تجريد تلك المنظمات من حقها الطبيعي، السليم في ممارسة دورها في التنمية السياسية، أو تنصل القوى السياسية من مسؤولياتها وإلقاء الحمل على تلك المنظمات. والمحصلة في كلتا الحالتين بناء منظمات مشوهة، غير قادرة على القيام بمسؤولياتها الحقيقية التي يفترض فيها القيام بها. 

4. شحة مواردها المالية التي تعينها على القيام بدورها، سواء لتغطية كلفة مواردها البشرية الخاصة بها، أو لتمويل مشروعاتها التنمية التي تقع في صلب مهامها المنوطة بها. وليس الحديث هنا عن المعونات التي تحصل عليها تلك المنظمات من هذه الجهة أو تلك، بل عن الموارد المالية التي تستحقها والتي تستخدمها في تغطية نفقاتها التشغيلية والتمويلية. 

ذلك يشير إلى ضرورة الالتفات مجددا وعلى نحو مبدع نحو منظمات المجتمع المدني العربية من أجل مساعدتها على القيام بدورها الطبيعي في عمليات البناء والتنمية، وانتشالها من حالة "التغييب" الذي تعاني منه.