نظريَّة العدو الافتراضي

 

 

علي كفيتان

 

إنَّ حُكم المجتمعات -سواء أكانت شعوبًا بأكملها أو قبيلة أو أسرة صغيرة- يقوم على سيكولوجيا من يصل لسدة الحكم في تلك المجموعات الإنسانية المنتمية جميعًا لسيدنا أدم في نهاية المطاف، مهما تغيَّر لونها أو عرقها أو دينها أو معتقداتها، فنحن في النهاية لسنا مجموعات قادمة من كواكب أخرى لنتناحر على كوكب الأرض، لقد أوكل الله سبحانه وتعالى إلينا -وفي كل الرسالات السماوية- عِمَارة الأرض ونشر السلام بين الناس وهدايتهم للطريق المستقيم الذي يجنبهم الشقاء في الدنيا وفي الآخرة، كما أنَّ الديانات والمعتقدات الأخرى تدعو لنفس الأهداف بطرق أخرى إذا الهدف واحد، وجميع من على هذه البسيطة هم أبناء أدم وحواء عليهما السلام.

منذ مَطْلع التاريخ البشري، يعتمد من يملك قرار السيادة على تبني سياسات تضمن له الولاء والطاعة بين أوساط من يحكمهم، وفي معظم الحضارات سادت نخب سياسية تقوم فلسفتها على مبدأ التخويف والترهيب من المجهول القادم من بعيد أو قريب؛ وبذلك حصلوا على الطاعة من مبدأ تخويف وترهيب شعوبهم، وتظل كل مكونات تلك الشعوب ومقدراتها تعمل ليل نهار لدرء ذلك العدو الافتراضي غير الموجود أصلا.

وفي الآونة الأخيرة، ساد حِرَاك سياسي بين دول الخليج العربي والجارة جمهورية إيران السلامية، بقيادة عُمانية كالعادة، فهي الوحيدة التي لا تزال تمتلك المفتاح القادر على فتح جميع أبواب المنطقة، ظهر السلطان مجدداً رغم ظروفه الصحية متوشحا بحزام السلام وبابتسامته التي كنا ننتظرها نحن بشوق وبلهفة بعيدا عن دهاليز السياسة، مُستقبلا فخامة الرئيس الإيراني الذي بدا ممتناً لجلالته السلطان من خلال ابتسامته العريضة غير الدبلوماسية كما استرقت بعض الميكرفونات كلمات فخامته في الوهلة الأولى التي رأى فيها جلالة السلطان؛ حيث قال روحاني: "الحمد لله على سلامتكم"، ونحن كذلك نحمد الله على طلعتكم البهية يا سيد عُمان، وعراب السلام الأول في المنطقة.

إذن إيران اثبتت أنها مُستعدة للحوار، ولا تريد أن تصبح العدو الافتراضي لشعوب المنطقة، والدليل قدوم روحاني بنفسه إلى السلطنة، ومن ثم إلى الكويت، وما زلنا نترقب زيارة الشيخ صباح -حفظه الله- إلى السلطنة اليوم، في هذا سعي دؤوب لتقويم الوضع في ظل عدم وضوح السياسة الأمريكية حيال المنطقة؛ فالرئيس الأمريكي الجديد لم يبدِ أيَّ مودة تجاه حلفائه التقليديين، بل طلب منهم دفع فواتير حروب المنطقة بأثر رجعي، وتعويضه عن الجنود الأمريكيين الذين قضوا في تلك الحروب التي بنتها الولايات المتحدة على مبدأ العدو الافتراضي الوهمي؛ فصدام حسين ليس لديه برنامج للأسلحة النووية أو الجرثومية، وكانت هذه هي الحجة الوهمية التي اقتنع بها من شارك في تلك الحرب، وتحوَّلت الدولة إلى شتات، واليوم يقوم العراقيون المخلصون بكل طاقاتهم لاستعادة دولتهم التي دُمِّرت بسبب العدو الافتراضي الوهمي، ومن يُساعدهم حالياً مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو غيرها بلا شك سيقدمون لهم الثناء، وسوف تكون لهم الأولوية في العراق الجديد؛ فإيران لم يكن لها يد في الإطاحة بالدولة العراقية وتشرذم شعبها إلى مِلَل ونِحَل، وما تقوم به اليوم ضرورات تمليها الجغرافيا السياسية والمصالح المشتركة التي لم يفهما للأسف الكثيرون بعد في منطقتنا.

إنَّ الشمَّاعة الطائفية وُظِّفت كذلك وبقوة كعدو افتراضي في المنطقة، ولكننا لم نسأل أنفسنا: لماذا نحن خائفون من التمدُّد المذهبي الذي تدعمه جمهورية إيران الإسلامية إذا كان موجودا فعلا؟ إنَّ مثل هذه الأمور تقوم على مبدأ الاقتناع وليس الفرض؛ فلو تصوَّرنا أنَّ مدًّا مذهبيًّا يتمدد على حساب غيره فعلينا الرجوع إلى انفسنا؛ فربما نحن لم نصبح مقنعين بما فيه الكفاية لشعوبنا، ورسائلنا الدينية تقوم على مبدأ غير قويم أو غير مفهوم؛ مما يُتيح مساحة شاغرة للآخرين حتى غير الإيرانيين مثل اليهود والمسيحيين بل وربما البوذيين وغيرهم من الأديان والمعتقدات الأخرى للحصول على مكان في مجتمعاتنا؛ فالدين لا يُفْرَض بالقوة، بل بالإقناع والحجة والسلام المبني على التنمية الشاملة، ودليل ذلك أنَّ أكبر دولة إسلامية اليوم هي إندونيسيا انتشر فها الإسلام بفضل التجار القادمين من جنوب الجزيرة العربية، ولم يُشهر فيها سيف، ولم تُجيَّش لها الجيوش.

السياسة العُمانية هي الأقرب فهماً لما يحدث، وتسعى بكل طاقتها لإطفاء الحرائق المشتعلة حاليا، ولتجنب اشتعال أخرى من مبدأ مصلحة وطنية أولاً ثم إقليمية ثم دولية، وما نفعله ليس صدقة على أحد، بل ضرورات لبقائنا وبقاء الجميع آمنا ومطمئنا في هذه المنطقة التي كتب لها أن تكون ملتهبة بشكل مستمر، وأن تكون بؤرة للصراعات الوهمية التي تصطنعها مطابخ السياسة العالمية.

حفظ الله مولانا جلالة السلطان، وأدام عليه الصحة والعافية والعمر المديد.

alikafetan@gmail.com