نور الديّن السالمي

 

د. صالح الفهدي

 

الشخصيّات المُؤثّرة في تاريخِ المُجتمعات لا تموت مناهجها وأفكارها وسِيرها وإنّما تظلُّ ماثلةً وإنْ على صعيدِ التّذكر والتكريم. كان هذا هو هدف مُنظمة اليونسكو حين أنشأت "برنامج الذكرى الخمسينية أو المئوية للأحداث التاريخية المُهمة والشخصيات المؤثرة عالمياً" عام 1956 وفق معايير خاصة وضوابط دقيقة، تكريماً للعطاءِ الإنساني، وإبرازاً للإسهامات البشرية في نماء وحضارة الإنسانية.

أمّا العلامة الرّباني والمصلح الاجتماعي نور الدّين السالمي فقد ظلّ حيّا في قلوبنا كعُمانيين إذ تتلمذنا على يديهِ من خلال مؤلّفهِ "تلقينِ الصبيان" الذي كانَ أشبه بدستورٍ لا يُمكن لصبيِّ أن يشبَّ دون أن يُشرَّبَ معينه، ويلقّنَ متنه، وأرجوزته "جوهر النظام" التي حفظها الكثير من العُمانيين وردّدوها عن ظهرِ قلب. فكيفَ بعَلَمٍ مثله أن يموتَ، وكيف بذكرٍ لمثله أن يفوت؟!

كنتُ أثناءَ الندوةِ المئويةِ المبجّلةِ الباذخةِ التي تليقُ بجنابِ شخصيّةٍ تاريخيّة عُمانية في مقامِ نور الدين السالمي مشدوهاً في عناوينِ مؤلّفاتهِ، وسببُ ذلك هو في القدرِ العظيمِ من وهجِ الإيجابية النوراني الذي يفيضُ من بينِ تلكمُ المُفردات. فهي سواطعٌ ذات إيجابيةٍ عاليةٍ تدلّلُ على أنَّ الكفيف الأعمى هو أعمى البصيرةِ لا أعمى النظر. والشيخ رضي الله تعالى عنه كان أعمى البصر منذ صغره لكن طالع هذه النورانية المتوهجةِ في عناوين مؤلفاته من قَبيل "أنوار العقول"، "بهجة الأنوار"، "روض البيان"، "شمس الأصول"، "طلعة الشمس"، "مدارج الكمال"، "معارج الآمال"، "بلوغ الأمل"، "المواهب السنية"، "المنهل الصافي".. إلى آخر هذه الكلمات التي ينداحُ منها النورُ، والابتهاجُ، والتفاؤل.. فكيفَ تأتّى لعالمٍ لا يتبرّم فَقَدَ بصره منذ صغرهِ أن يكونَ بهذا التألق الوجداني المُشرق، وكيف له ألاَّ تضيق به الدنيا لفقدهِ نظره، كما تبرّم غيره؟! إنه لا شكَّ نورُ الله حينَ تشرقُ به جنباتُ النفس، لا يكونُ البصر حينئذٍ إلاّ مجرّد هيئةٍ مكمّلة للخلقة البشرية، يقول المتنبي:

وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره .. إذا استوت عنده الأنوارُ والظّلمُ

ولقد حُقَّ له أن يسمّى "نور الدّين" فهو نورٌ يتلألأ في جنباتِ الأرضِ، تركَ في التاريخِ مآثرَ مضيئةً، صانتها أمُّته العمانية، وحمتها – بفضل من الله عليه – أعظم مُنظمةٍ تُعنى بالتربية والعلم والثقافة، وما جاءتَ التسميةُ إلاّ لأنّه يستحقّها ويخلّدُ بها ما شاء الله له ذلك.

فهو "نور الدّين" لأنّه حمل لواءَ الوسطيةِ، والاعتدالِ، ونبذُ المُغالاة في الدّين، والتطرّف في فهمهِ، إذ قام الدّينُ على حسنِ الظّن، وترْكُ الحكم لله الواحدِ الأحد، وعدم أخذ العبادِ بجريرةٍ مخبوءةٍ في السريرةِ، لا يعلمُ بواطنها إلاّ الله، ولا يدركُ سرّها إلا خالقها، لهذا كم يردّد العمانيون بيتيه اللذين وردا في أرجوزته "جوهر النظام":

ونحن لا نطالب العبادا… فوق شهادتيهم اعتقادا

فما أتى بالجملتينِ قُلنا .. إخواننا وبالحقوقِ قُمنـا

نعم إننا لا نطالبُ العبادَ بأن يكشفوا عمّا في صدورهم فلسنا رقباءَ عليهم، ولسنا من يترصّدُ النوايا، ولسنا من يحكمُ في الطوايا، فنحنُ شهداءُ اللهِ في الأرضِ لا رقباءهُ، فتلكَ مهمّةٌ أوكلها الملكُ القدّوس لغير بني البشر.

ووالله لو رددّ المسلمون في مشرقِ الأرضِ ومغربها هذين البيتينِ لما اشتعلت فتنة، وما تعاركَ اثنان، ولا تنازعت قبيلتان، ولا خربت الأرضُ، ولا حاقَ بأهلها وإعمارها الهلاكُ والدّمارُ..! لو ردّدوهما لما سمعنا عن نعراتٍ طائفية، ونزاعاتٍ مذهبية، وعصبياتٍ دينية..!. لو ردّدوهما لما عرفنا ما يسمّى بـ "التطرف الإسلامي" و"الاقتتال المذهبي"..! لقد حمل البيتان حُسن الظنّ بالبشر، فكلُّ من نطقَ بالشهادةِ فقد جاء برأسِ الاعتقاد، ومن فعلَ ذلك فقد أصبحَ أخاً للمسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم. هذا كلُّ شيءٍ، أمّا الحكمُ على العمل – ما لم يكن ظاهراً محسوساً يخالفُ العقيدةَ والشريعة والقوانين - فليسَ ذلك من شأنهم، بل هو من شأنِ الله هو سبحانه أعلمُ بالسرائر، وأدرى بالضمائر.

وهو "نور الدّين" لأنه كان مجدّداً في الفقهِ إذ تميّز كما يقول الدكتور رضوان السيد بـ"القراءات الجديدة والواسعة للنص. واعتبارِ المقاصد والمصالح بوصفها الغايات للشريعة من جهة، والوسائل الواقعية والإعمالية للتلاؤم مع المتغيرات من جهة ثانية". وهذا هو الفهمُ الجليِّ للشريعةِ التي تتوسم تحقيق المقاصد والمصالحِ للمسلمين، متكيّفةً مع المتغيرات، غير جامدةٍ في التَّعاطي، مرنةٍ في التجاوب وفق إطارِ المقاصدِ الكليّة للشريعة. لقد ضرب العالم الجليل "نور الدّين السالمي" رحمةُ الله عليه، مثلاً عظيماً لكلِّ طالب علمٍ في العموم، والفقهي في الخصوص وذلك لأنه لم يكتفِ بالنقلِ من شيوخِ العلم بل أعمَلَ عقله في تحليل ما يقعُ في يديه من نصوص، وأشغَلَ نفسه بالنقدِ فيما يتلقاهُ من علم من أجل أن يصوغ آراءَه الخاصة في جوانبَ مُختلفةٍ منذ أن كان عمره في الرابعة والعشرين عاماً..!. هذا المُعطى الإلهي أنشأهُ على استقلالية الفكرِ في اجتهاداتهِ، إذ لم يكن محابياً لرأيٍ لا يتفقُ معه وإن بدرَ ذلك من مُعلميه، ومع ذلك كان متواضعاً في رأيهِ عن علمه ونفسه.

وهذا مسعى يجبُ أن ينهجهُ كل من يريدُ أن يشقَّ طريق العلم من أجل خدمةِ الدّين والأمّة، فالعقلُ ليس وعاءً يُحشى بالمعلوماتِ وحسب، بل هو مختبرٌ عظيم للتحليلِ والنقدِ والتجربة لا يُدركُ قَدْرهُ إلاّ صاحبِ الهمّة العاليةِ، والعزيمةِ الوقّادة.

وهو "نور الدّين" لأنه كان مصلحاً اجتماعياً صاحب مشروعٍ إصلاحي نهضوي، سعى به إلى رأب كلِّ صدعٍ في الأمّةِ، وعمل فيه جاهداً إلى توحيدِ كيانها، غير متقوقعٍ في التأليفِ والنقدِ والتحليل، بل إن قضايا الأمّة كانت شُغلَهُ الشاغل، فوظّف هيبتهُ العلمية، وتقديرِ الناس له في إصلاحِ ذات البينِ، وعقد الاتفاقات بين القبائل لكي يشفي قلوبها عن العصبية، ويرفع أياديها عن التناحر. يقول حفيده الشيخ سليمان بن محمد بن عبدالله السالمي في مسعى جدّه الإصلاحي النهضوي: «لقد كان شديد التَّحسس لما يُهدِّد المجتمع الإسلامي في بلادنا العربية وفي غيرها من غزوٍ عقائدي، وما يدور في البيئات المُثقفة من شبه حول الإسلام، ومن افتراءات وتشويهات دسَّها المستعمرون والأعداء، وكان يشعر بمرارة مما ران على المجتمع منذ عصور من مظالم اجتماعية». ولعمري فإنَّ تحسُّسَ العالم الرَّباني نور الدين السالمي ينعكس اليومَ على قضايا عصرية لا تزالُ هي عُقَدُ الفرقةِ، ودواعي التمزّق في الأمّة الإسلامية في عصرنا الرّاهن..!!

وهو "نور الدّين" لأنه برهانٌ ساطعٌ على أنَّ عمر الإنسانِ لا يُقاسُ بالسنينِ بل بما أبقى من آثارِ، وما تركَ من مُنجزات، فقد تُوفي رضي الله عنه قبل أن يصل الخمسين من عمرهِ (1283هـ -1326 هـ)، لكن خلّدته المكارم، ورصّعت سيرتهُ المآثر، إذ إنه قضى الحياةَ باحثاً عن العلم، متنقلاً بين بلدةٍ وأخرى، ينتهلُ من رحيقِ علمائها، ويستقي من معينِ فقهائها، حتى استقامِ به الأمر، وكوّن لنفسهِ أساساً علمياً أنتج نحو ثلاثين مؤلفاً في أصول العقيدة، والفقهِ، والحديث الشريف، والنحو، والتاريخ نظماً ونثراً. ومع ذلك فقد كان رجلاً سياسياً لامعاً، وصاحبَ مشروعٍ نهضوي لا على صعيدِ الأمّة العُمانية، بل تجاوزت مطامحه إلى العالم الإسلامي، وتجلّى ذلك في علاقاته بأعلامٍ بارزةٍ من دولٍ عربيّةٍ إسلامية. فكم من نافَ عمره عن المائةِ عامٍ وكأنّما هو طيفٌ أو شبحٌ مرَّ في هوامشِ الحياة، وكم من قَصُرَ عُمره وعَمَّر اسمه دهراً بما خلّدَ من أعمالٍ عظيمةٍ، وموروثاتٍ كريمة.

وهو "نور الدّين" لأنَّ همّه الأقصى وحدة الأمة، وجمع شملها تحت رايةِ الإسلام، بعيداً عن المذهبيات، والأمراض النفسية التي تعتورها، فانظر إلى معرضِ ردِّهِ بعينٍ وانظر بأخرى إلى واقعنا الراهن في إجابته لسؤال بعثه إليه سليمان باشا الباروني –سياسي ومجاهد ليبي- طالباً منه أن يضع حلولاً جذرية لوحدة الأمّة الإسلامية، فأجابَ رحمة الله عليه: "قد نظرنا في الجامعة الإسلامية فإذا فيها كشف الغطاء من حقيقة الواقع فللَّهِ ذلكَ الفكرُ المُهدي لتلك الحقائق، نعم نوافق على أن منشأ التشتيت هو اختلاف المذاهب وتشعُّبِ الآراء وهو السبب الأعظم في افتراق الأمة كما اقتضاه نظرك الواسع في بيان الجامعة الإسلامية منها: التحاسد، والتباغض والتكالب على الحظوظ العاجلة ومنها: طلب الرئاسة والاستبداد بالأمر، وهذا هو السبب الذي نشأ عنه افتراق الصحابة في أوَّل الأمر في أيام علي ومعاوية. ثم نشأ عنه الاختلاف في المذاهب وجمع الأمة بعد تشعب الخلاف ممكن عقلاً مستحيل عادة والساعي في الجمع مصلح لا محالة، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية ويحثهم على التسمي بالإسلام "إن الدين عند الله الإسلام"(آل عمران/19) فإذا استجاب النَّاس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية، فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه، ويكون الحق أولاً عند آحاد من الرجال ثم يظهر شيئاً فيصير الناس إخوانا" هذا الفكر الإصلاحي الراقي ينسجمُ مع فكر عبد الرحمن الكواكبي الذي زامنه في الفترة ذاتها (1271 هـ – 1320 هـ ).

فبمثلِ هذا العلم البارز يحتفي البشر، وبمثلِ هذا المشعل الوقّاد تحتفي السّير؛ عالمٌ أنفقَ عمرهُ لله، مخلصاً النيّةِ، صادقَ العمل، سخيَّ العزيمة، ما وهنت له عريكة، وما ضعفت له إرادة في سبيل المسعى الجامعِ للأمِة الإسلامية. لم يُعرف عنه انحيازهُ لمذهبه، بل لعقيدةِ الإسلام وحسب، ولم يؤثر عنه عصبيتهُ لقبيلةِ أو لطائفةٍ، بل شغلهُ الشاغل لمُّ شمل المُسلمين في وحدةٍ جامعة.

لمثلِ هذا العالم النحرير، والفقيه الفطن، والمصلح الحاذق، والقدوة العظيمة، ترصّعُ مفاخر التاريخ العماني والإسلامي، وتعقدُ الروابط الوثيقة لجمعِ شتاتِ الأمّة، وإعادة مسارها إلى طريق الإشراق والتنوير والوحدة.