شفاء يا الله .. لمُتيم الوطن

 

د/عبد الله عبد الرزاق باحجاج

عندما كنُّا في مرحلة الشَّباب، كانت الأغاني الوطنية خاصة لفنانين مشهورين،  أمثال سالم بن علي سعيد، تُخاطب وجداننا، وتنفذ إلى أعماقها، لتُثبت قيم الولاء والانتماء والهوية، كان وقعها لا يقل عن تأثير مادة التربية الوطنية، والنشيد الصباحي المدرسي، إن لم يكن أكثر– ليست مُبالغة – وقد ارتبط اسم سالم على سعيد – ومثله آخرين - بمرحلة وطنية في غاية الحساسية والخطورة، إنِّها مرحلة بناء الدولة العصرية، وانعتاقها من مراحل التشطير الديموغرافي والجغرافي والاقتتال، ودخولها في مرحلة توحيد البشر والأرض تحت قيادة واحدة وسلطة واحدة في نطاق دولة مُتحدة.

بدأ مسيرته الفنية عام 1974 متخصصًا في الوطنيات، متناغماً مع مسيرة بلاده السلمية الجديدة، تاركاً السلاح بعد أن حمله في بدايته الأولى في حرب ما يُسمى بتحرير ظفار، اقتناعاً منه بقدراته الذاتية في صناعة الذهنيات الاجتماعية الجديدة التي تتماشى مع إستراتيجيات الدولة الحديثة، أكثر من حمله السلاح، وأن طبيعة هذه المرحلة السلمية تحتم تعزيز توجهاتها الولائية والانتمائية والمصير المُشترك، وهذا ما يُفسر لنا تخصصه في الوطنيات منذ أعماله الأولى مثل،، خليك معي يا أخي،،وكذلك،، يا أمة الخير،، وقد خاطب فيها مُختلف الفئات العمرية، باتجاهاتها القابلة بالعهد الجديد أو التي لم تصلها رسالة هذا العهد الحقيقية،، آنذاك،، وظلت رافضة للاندماج فيه، فتحوله من خيار السلاح إلى خيار صناعة الذهنيات، كانت رؤية نافذة وصائبة، فلو ظل جندياً، فلربما رمت به الأقدار الآن في غياهب التَّقاعد، ومن ثم النسيان، فقد حفر اسمه ضمن قائمة الأسماء الخالدة في ذاكرة الوطن من خلال ملاحمه الوطنية الرائعة – موضوع حديثنا الآن – فلن تنسى هذه الذاكرة، ملحماته مثل،، الحب الأبدي، القبس المُنير، ميلاد شعب، وعيدنا قد حلَّ، وعُمان الخير، تحية حب، وقابوس الشهامة، ويا أغلى وطن، وشمس الحضارة، وموطن الأحرار، وسناء الأقمار.. إلخ ففيها يطير بنا بصوته الشجي وأدائه البديع في كل الفضاءات الوطنية، ووفق كل مرحلة وطنية تمر بها مسيرتنا التنموية الشاملة، وأهم مضامين رسائلها الوطنية أنَّها ساهمت كثيراً في تعزيز عُمق الولاء للوطن من أقصاه إلى أقصاه، وكرَّست حب الولاء لقائد الوطن -حفظه الله ورعاه-، مثل ملحمة،، ميلاد الأصالة،، ونقتطف منها هذه الزهرة الجميلة،، تحية من مسقط ونزوى والبريمي من مسندم، ومن صحار الخير ومن صور المعالي، من ظفار النصر والأصالة والمكارم، نهدي آيات الأماني لك يا قابوس المعظم،، تطواف يُكرس واقع الوحدة الجديدة ويرسخ الولاء، وكذلك قصيدة،، الحب الأبدي، وتأملوا في هذا البيت الرائع،، من حصون شامخات شاع نور في السماء، بدَّد الغيم وعانق وجه الأنجام، يا ولاءً أبدياً ويا سناءً من سناء،  سر بنا نمضي نفتدي هذا الحمى،،  وقد كانت كل أغنية من أغانيه الوطنية تمثل قيم الوطنية، والدفاع عن الهوية العُمانية، بكل مفرداتها، الكلمة الصوت والأداء واللحن، ومعظم الألحان من إبداعاته،  لتشكل وكل واحدة منها ملحمة وطنية صالحة لكل الأزمنة، وكذلك كان له السبق في الدفاع عن الهوية العُمانية، وحقوقها التاريخية بصوتٍ عالٍ، سبق في ذلك وسائل الإعلام، قديمها وحديثها، ولنا في ملحمته الرائعة،، لمن السفائن،، نموذجًا نقدمه للاستدلال بها، ففيها دفاع عن عمانية بحَّارُنا الشهير أحمد بن ماجد، وفيها تأكيد لسيادتنا البحرية، هذا كله قبل أن تتقاطع مزاعم خارجية على هذه الهوية العُمانية، بل إنِّه لم يترك شأناً وطنياً إلا ونفذ إليه، مساهمة منه في تعزيز قيم الولاء والانتماء والهوية في كل مراحل وتفاصيل مسيرة نهضتنا المُباركة، حتى القضايا الاجتماعية قد تصدى لها، ولنا في قصيدة، أين من يسمع ندائي،، نموذجًا لمُساهماته في حل قضايا اجتماعية مثل غلاء المهور، وكذلك الرياضية، مثل،، يالهيب حارق،، و"منتخبنا دوما".

ولما كنُّا في الخارج للدراسة الجامعية، كانت أغانيه الوطنية، تشدنا للوطن، وتربطنا به، وتحبط كل خياراتنا الشبابية في العيش خارجه، مثل ملحمة،، يا أغلى وطن،، التي تقول في بعض أبياتها،، يطيب العيش في صحراك وجبالك، وأكرم بحرك وأبرك رمالك... حتى يقول،، يا أغلى أرض وأوفى نبض،، وعندما كنا نجلس على نهر،، آبي رقراق،، الفاصل بين مدينتي الرباط وسلا بالمملكة المغربية الشقيقة، كنُّا نصبر غربتنا بملامحه الوطنية مثل،، شمس الحضارة، التي تقول بعض أبياتها،، عُمان ياعشق الصبا والطفولة، ياعُمق إحساسي وعرضه وطوله، يانجم ساطع ما خشينا أفوله، ما غابت الشمس عن بلادي ولا حين، طلعت الأمجاد أرض الغبيراء شمس ساطع تبهر العين،، إنها كلمات، هز بها مُبدعنا  الوجدان، وأثر على حواسنا الخمس، بروعة أدائه وعذوبة لحنه، وهكذا شأن كل أغانيه، وشأن كوكبة من الفنانين العمانيين أمثال مسلم علي وسالم محاد وأحمد مُبارك غدير والراحلون محمد حبريش وحكم عائل وعبد الله الصفراوي.. والعذر كل العذر في حالة نسيان الآخرين، الذين أعلوا من شأن واقع بلادنا الجديد، وتناغموا معه، وعززوا توجهاته الإصلاحية.

والآن نسمع عن صوت الوطن، الفنان سالم علي سعيد، أنه وقد وقع في المرض، وأنه سيظل حبيسه لفترة من الزمن، وقد تم نقله أمس الأول الإثنين إلى المستشفى السلطاني بمسقط بعد تنويمه في مستشفى السلطان قابوس بصلالة عدة أيام، ولما سمعنا الخبر، شعرنا بأن واحدا من أفراد العائلة يتألم، وأننا ينبغي أن نشاركه الألم، ونقف معه، لم ولن نجد عذرًا لأنفسنا عن زيارته، وأثناء زيارتنا له في صلالة، تفاجأنا من مصدر مُقرب له، بعزوف المسؤولين المحليين عن زيارته وحتى عن الاتصال به وعلى رأسهم هرمهم المحلي، وإذا لم يتضامنوا مع مثل هذه الشخصيات العامة، ويقفون معها، فمع من سيقفون ويتضامنون؟ وكيف يُريدون للمواطن أن يظل متيمًا بوطنه أسوة بمن سبقوه في ظل هذه السلبية؟  والآن الكرة في ملعب المركزية في مسقط بعد أن تمَّ نقله إلى هناك، فماذا أنتم فاعلون،، لمُيتم الوطن ؟

إننا نتحدث هنا عن وطن بهوية معلقة بصوت فنان، إنّه سالم بن علي سعيد، كان بحق سفيراً فنياً لبلاده في الخارج، وكفى بهذا لوحده اعتبارا، وكانت ملحماته الغنائية تتواكب مع كل انتصار عسكري – آنذاك – ومع كل ترسيخ للولاء والانتماء، ومع الوطن في انشغالاته المرحلية، كأعوام الشباب والشبيبة والتراث، ومع الدفاع عن الهوية، ومع انتصاراتنا الرياضية، ومع قضايانا الاجتماعية، وهذه اعتبارات كبرى تجعل الوطن يُسارع في الوقوف معه عاجلاً وليس آجلا.. لا تتركوا،، صوت عُمان،، ومتيمها،، يتألم الآن في المستشفى السلطاني، وهذا من أبسط حقوقه، كما أنّه سيكون درسًا للأجيال، فبقدر وفائنا لهذا الجيل الذهبي، بقدر ما نصنع الوفاء في الأجيال، ونضمن استمرار مسيرة  الأوفياء لهذا الوطن، والولاء لقائد عمان، كلنا في حب الفنان سالم بن على بن سعيد غواص، وفي هذه اللحظات نتوجه إلى الله عزّ وجلّ بهذا الدعاء العاجل: اللهمّ اشف سالم شفاءً ليس بعده سقمٌ أبداً، اللهمّ خذ بيده، اللهمّ احرسه بعينك التّي لا تنام، واكفه بركنك الذي لا يرام، واحفظه بعزّك الّذي لا يُضام، واكلأه في الّليل وفي النّهار، وارحمه بقدرتك عليه. أنت ثقته ورجاؤه، يا كاشف الهمّ، يا مُفرّج الكرب، يا مُجيب دعوة المُضطرّين، اللهمّ ألبسه ثوب الصّحة والعافية عاجلاً غير آجلٍ، يا أرحم الرّاحمين، اللهمّ اشفه، اللهمّ اشفه، وبقية مرضى المسلمين، اللهمّ آمين.