العرب: حالة تاريخية استثنائية تتطلب معالجة استثنائية (2/2)

 

عبيدلي العبيدلي

قادت تلك التحولات غير الاستثنائية التي عرفها الحوض السياسي العربي إلى مجموعة من التراكمات الكمية، البعض منها كانت وتيرته بطيئة، لكنّها بعضها الآخر كان سريعا ومتلاحقا وبخطوات واسعة، إلى إحداث التحولات الاستثنائية التي يمكن حصر أبرز معالمها في النقاط التالية: 

- على المستوى السياسي، انحرف التطور السياسي الطبيعي للعديد من دول المنطقة العربية، وقادت الانقلابات العسكرية إلى ما يشبه الطفرة "الاستثنائية" المشوهة، إن جاز القول، التي حالت دون تطور البنى الفوقية الضرورية التي تمهد للتأسيس لمجتمع مدني راسخ الأركان، تتوزع فيه السلطة وفق معادلة منطقية، تحول دون استئثار فئة محدودة دون غيرها بتلك السلطة والتحكم في مفاصلها بشكل عشوائي يجعل من تطور البلاد العربية السياسي أسير رغبات تلك الفئة. وفي السياق ذاته اختلت مقاييس المعادلة التي تنظم العلاقة الصحيحة، وفق معايير منطقية أفرزها التطور البشري على مدى قرون، بين من هم في الحكم، ومن هم في صفوف المعارضة. ومن الخطأ هنا إلقاء اللوم على من يمسكون بزمام الحكم، رغم تحملهم القسط الأكبر من المسؤولية، لكن يتحمّل الطرف الثاني، وهي المعارضة جزءًا لا يستهان به من المسؤولية. وبموجب ذلك انبثقت الحالة السياسية الاستثنائية التي رسمت معالم البناء السياسي للحوض العربي، ومرتكزها الأساس، أنظمة حكم شمولية تضع سياسات عفوية غير ممنهجة، تقابلها معارضة، هي الأخرى، تتصرف بردة فعل عشوائية غير قادرة على وضع برنامج يلبي حاجات الحاضر ويستقرئ متطلبات المستقبل. هذه الحالة غير المتماسكة سياسيا هي التي تفرض قوانين الواقع الاستثنائي الذي نشير له. 

- زواج وثيق لكنّه غير مقدّس بين السلطة والمال مارس دورًا تخريبيًا ملموسًا يشخصه أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت د. سامي الخليفة، حين نجده يقول "للأسف إنّ الكثير من رجال الأعمال باتوا يمثلون قوى نفوذ مؤثرة على الحكومة ويمثلون حجر عثرة أمام كثير من جهود الإصلاح وبرامج البناء والتطور التنموي.. إنّها حقيقة لم تعد خافية حين يتجه هؤلاء إلى تمكين مصالحهم الخاصة على حساب المال العام ومصالح الناس من خلال الهيمنة على المناقصات والعقود المليارية لبناء مشاريع البنية التحتية في البلاد في ظل غياب الشفافية والرقابة المجدية". امتدت أصابع هذا التحالف كي تشوه مسارات التطور الطبيعي أمام التأسيس لمجتمع مدني تمارس فيه منظمات المجتمع المدني دورها الطبيعي في ترسيخ قنوات العلاقة السليمة بين مكونات العمل السياسي العربي. وهكذا وجدنا حالة استثنائية يعبر عنها مال فاسد، يسير أنظمة متهالكة، تنافسه في مضمارها قوى معارضة متخلفة عن الركب، بل ربما تسير في مؤخرته بدلا من قيادته، تراقبها منظمات مجتمع مدني هشة غير قدرة على ممارسة أضعف الأدوار المنوطة بها. أدى ذلك إلى تشوه معالم المثلث الذي ينظم العلاقات التي يحتاجها تطور المجتمع بين فئاته الثلاث: السلطة الحاكمة، والمعارضة المتنورة، ومنظمات المجتمع المدني الناضجة، مما ولد بدوره الحال الاستثنائية التي نتحدث عنها. 

- انعكس ذلك عميقا على الوضع الاجتماعي العربي، وشكل كما يقول الكاتب محمد عفان، في دراسة له حملت عنوان "الدولة العربية الحديثة: السياقات والتشوهات"، مشخصا الواقع العربي الراهن، تحديا لواقع "بناء الهوية الوطنية الجديدة، والحصول على ولاء المواطنين للدولة، خصوصاً أن ترسيم حدود أغلب الدول العربية تم بالأساس على يد المستعمر، ودون أسس قومية أو مصلحية واضحة". تضافر ذلك، وكما ينوه عفان مع ذلك الهجوم الذي شنته "الأيديولوجيات الإسلاموية والعروبية ضد الهوية الوطنية القطرية، بل ومثلت بديلاً منافساً لها وتهديداً واضحاً لشرعيتها. الوضع الاجتماعي المزري الذي يعاني منه أغلب مواطني الدول المستقلة حديثاً، والمتمثل في الفقر والأمية والمرض، مع ضعف مصادر التمويل التي تحتاجها المشاريع القومية اللازمة للتصدي لهذه المشكلات، بالإضافة إلى مشكلات التفاوت الطبقي، والانقسامات المذهبية والعرقية التي أججتها سياسات التمييز الاستعمارية." 

- شخصت تلك المعالم الأطر العامة للواقع السياسي/ الاجتماعي الاستثنائي للحالة العربية، وتضافرت على نحو سلبي مع نمط الإنتاج الاقتصادي القائم على الريع، وهو نمط مدمر على المستوى الإنتاجي، ومهمش على الصعيد الاجتماعي السياسي. هذا ما تؤكده العديد من الدراسات ومن بينها ورقة الكاتب محمد الشيمي التي تؤكد على أنه " لا يمكن المراهنة على أي تغيير أو إصلاح سياسي أو قانوني أو ثقافي في المجتمع الريعي إلا بتحويل مصدر دخله الريعي الوحيد إلى إنتاجي ومتنوع عندها تعلو قيمة وميزة الإنسان المنتج والذي يصبح حينها مصدر دخل الدولة والعماد الرئيسي لعزتها ومنعتها ودوامها ففي المجتمع الريعي لا يمكن اكتشاف الخلل والمرض بسهولة وجلاء حيث الأموال التي تدر عليه كفيلة بالتغطية على كل عيوبه وتشوهاته". وتكشف تشوهات الاقتصاد الريعي ما جاء في دراسة الباحث غسان محمود إبراهيم الموسومة "الأبعاد الاجتماعية للاقتصاد الريعي في سورية"، التي يحذر فيها من أن "المفهوم الواسع لاقتصاد الريع لا يتمثّل في الخمول الإنتاجي وغياب الجهد والتضحية فقط، وإنّما في هدر الطاقات العلمية والفكرية والعقلية أيضاً، (مضيفا بأن) مشكلة الاقتصاد الريعي لا تكمن في هذا الاقتصاد بحد ذاته، وإنّما في الركون إليه والاستسلام له وبالتالي عدم إيجاد أشكال أخرى من الاقتصاد أو مصادر مولّدة للدخل". 

هذه العوامل، وربما هناك أخرى غيرها، ولدت الحالة الاستثنائية التي أشرنا لها، والتي بحاجة، إن أردنا الخروج منها، نحو الأفضل، ذهنية عربية مختلفة، تفكر خارج الأطر التقليدية التي، هي الأخرى مسؤولة عن الحالة التي بتنا نعاني منها. وفي غياب هذه الذهنية العربية المبتكرة والمتفتحة، ليس هناك من مفر أمام استمرار سيطرة الحالة الاستثنائية المدمرة التي تسيطر على مقدرات الحياة العربية الراهنة.