ماهية الخِطْبَة (2)

نادية المكتوميَّة

جاء في وصية الخطاب المخزومي لابنه: "يا بني، إنَّ زوجة الرجل سكنه ولا عيش له في خلافها، فإذا هَمَمت بنكاح امرأة فاسأل عن أهلها، فإنَّ العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة".

كُنَّا قد بدأنا حديثا مهما عن ماهية الخطبة من وجهة نظر شرعية ونفسية، وتحدَّثنا عن كون هذه المرحلة مهمة في عملية الاختيار، وأيضا تحدثنا عن المرحلة الأولى وهي النظرة الشرعية، وماذا يتم في الزيارة الأولى، ونواصل الحديث حول النظرة الشرعية، هناك اعتقاد سائد بأنَّ النظرة الشرعية زيارة واحدة أو أحيانا نظرة خاطفة لكلا الطرفين المقبلين على الاختيار، وهذا الاعتقاد يتنافى مع الطرح النبوي والنفسي من وجهة نظري، وأعود لأذكر الآباء بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن زيارة واحدة كافية، فلا يوجد دليل شرعي واحد يقول بأن النظر للمخطوبة لمرة واحدة فقط، بل على العكس؛ ففي الطرح النبوي ما يُؤكِّد أن النظر قد يكون لأكثر من مرة، حسب الحاجة، وقد قال الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "فلينظر إليها ما يدعوه لنكاحها"، وفي حديث آخر: "فلينظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما"، خاصة وأنَّ ما يدعو إلى نكاحها مُتغير اجتماعي، يتغير ويتشكل مع متغيرات الوقت، لذلك هو قراءة لفكر المرأة، ولفكر الرجل؛ لذا كان لزاما أن لا تكفي النظرة العابرة، إنما الحوار. وفي قول الحبيب المصطفى: "أحرى أن يؤدم بينهما"، ما يدعوه لنكاحها، فبعض الناس يكون صامتا جميلا، فإذا نطق كان قبيحا، والعكس صحيح، ولأن النظرة الأولى تشنجية عادة، ومربكة لكلا الطرفين، وقد يظهر فيها الشخص أفضل ما عنده؛ لذلك وجب أن تكون الرؤية شمولية كاملة، وأن تعطى القضية قداستها.

إنَّ الأب الناضج يدرك تماما أن رؤية ابنته لأكثر من مرة ليس انتقاصا لمكانتها، وليس مخالفا لما جاء في الأطروحات الشرعية، بل على العكس، هو مدعاة لنظرة متأنية مستنيرة، فاحذر أيها الأب من شاب مستعجل، ولو كنت مكانك لعرضت على ذلك الشاب أن يأتي مرات لرؤية ابنتي؛ لأنظر هذا التبخر الكبير في هذه الذات، هل يستمر أم تهدأ تلك الذات تدريجيا، وتستدعي مثل هذه الشخصيات المتعجلة فترة خطوبة أطول؛ لاختبار انفعالاته من عقلانيته.

وهنا، يحتاج الشاب المتقدم أن يكون ذكيا أيضا في التعامل مع هذا الموقف، إذا رأى تحرجا من أب الفتاة في السماح بزيارة أخرى، كأن يقول له بلباقة تنم عن نضج عقلي، وتأن في الاختيار: بأنني يا عم أحس بأن ابنتك مترددة، ربما نحتاج لزيارة أخرى ليزول هذا التردد. وكذلك البنت تحتاج أحيانا لطلب زيارة ثانية، وثالثة بشكل لبق ذكي، فتخاطب والدها حسب طريقة تفكيره وبدون اصطدام معه. فإن كان الأب قوي الشخصية عقلانيا قد تقول له: بأني أشعر بقلق، أو غموض أحتاج لوقت ولقاء آخر، وهكذا يتم الخطاب اللبق بما يتناسب وطريقة تفكير الأب؛ لكي لا تدفع الفتاة ضريبة الاستعجال، فالعبء والمسؤولية الكبرى في هذه المرحلة تقع عليها، فأي اختيار خاطئ تدفع الفتاة ثمنه في المقام الأول. مهما كانت البنت تملك من مقومات الزواج كالجمال والدين والخلق وغيرها من المقومات إذا تزوجت وتطلقت انكسرت، وهذا واقع في مجتمعاتنا الشرقية على عكس الشاب تكون الفرصة أمامه في أغلب الأحيان "فانتبهن يا فتيات، لا تدفعن فاتورة الاستعجال".

والزواج مشروع يمتد إلى الآخرة لقول الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه: "عائشة زوجتي في الدنيا والآخرة"، لذلك الحرص على النظرة الشمولية المتكاملة لشريك الحياة في مرحلة الخطبة أمر مهم جدا، ماذا نقصد بالنظرة الشمولية؟ نقصد بها أن الشاب أو الفتاة يشاركون أهلهم في انطباعاتهم عن الطرف الآخر؛ فعلى سبيل المثال إذا تقدم شاب لفتاة ولو كانت لم تعرفه من قبل لا تقرر لوحدها وتحكم عليه، بل تطلب من أبيها أو ولي أمرها السؤال عنه، كذلك عند زيارته في مرحلة الرؤية الشرعية تسأل أمها وإخوتها ومن يعنيهم أمرها عن رأيهم وانطباعاتهم عنه، وهذا شيء مهم لأنَّ تعدد الانطباعات يجعل كل شخص ينظر من زاويته لهذا الشاب، ومن أبعادهم الشخصية؛ فيكون تمحيصا دقيقا لطبيعة ذلك الشاب؛ فبعضهم قد يركز على الملبس والآخر يعطي انطباعه عن مزاجه والآخر عن مكنونات كلامه؛ مما يُساعد في النهاية على تكوين صورة متكاملة حول ذلك الشاب تمهد للشعور بالارتياح والقبول أو النفور والرفض بناء على رؤية تكاملية مشتركة.

ومن هنا، نختم حديثنا عن مرحلة الرؤية والنظرة المقطعية التي تمثل الخطوة الأولى في آلية الاختيار بأنها مطلب حضاري مُتوافق مع الطرح الشرعي، ولا أبحث عن أشياء بعينها في اللقاء، بل أترك ذاتي تبحث، وأسرح مع الطرف الآخر بالحديث أتلمَّس الراحة معه ومنطقه في الحياة بكل عفوية، وليس بمنطق المقيم "فذلك أحرى أن يؤدم بينهما".. دمتم بفرح بجوار من تحبون!