"وأمّا بنعمة ربك فحدث"

عائشة البلوشية

كانوا قديما يقومون بعقر البعير أو البدنة لإطعام الضيف العزيز، أسوة بسيدنا إبراهيم عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام، ما أجمل نعم الله تعالى وآلائه من حولنا، فكما جاء في كتاب الله الكريم أنه قدم عجلا حنيذا لضيفه من الملائكة رغم أنهم كانوا ثلاثة رهط، وحنيذا في اللغة تعني مشويا وفي مقام آخر سمينا، لذلك عدت العرب أن أكرم ما يؤدم به الضيف هو لحم العجل المشوي، رغم أنه عليه السلام لم يعرف في بداية الأمر أنهم ملائكة، ولكنه ولشدة كرمه وحبه للضيفان، قدم لهم هذه الوجبة، وقديما من استطاع أن يكرم ضيفه بشيء الأنعام، فعل ذلك دون تردد، وكلنا قرأ أو سمع عن ذلك الكرم الذي وجده ضيف حاتم الطائي، فعندما لم يجد ما يقدمه لضيفه قام بذبح حصانه، حتى لا يخرج ذلك الضيف منكسرا لسوء وقلة ما ضيف به، فضرب به المثل منذ حينها، وأصبح يقال كرم حاتمي للتمثيل به لغزارة الكرم، ولاتزال هذه العادة موجودة إلى يومنا هذا ولله الحمد، ولكن طغت عليها صبغة الإسراف، وهذا ما يأسف له السواد الأعظم منا، ولكننا نقول لو أن صاحب الوليمة قام بتوزيع باقي الطعام عن طريق إحدى جمعيات الخير، والمتخصصين في هذا الجانب، لنجا بنفسه من مغبة الوقوع في فخ المسرفين الذين لا يحبهم الله عز وجل..

ولكنني هنا لست بصدد مناقشة موضوع الولائم أو الإسراف في تقديمها، فكل يملأ صحيفته بما يشاء، بل إنني أذكركم بأن جداتنا الأوائل لم يكن يحظين -إن كانت تقع تحت تصنيف بند الحظوة- بعلب زيت عباد الشمس أو الذرة أو غيرها من الزيوت التي ظهرت وقتنا المعاصر، وإنما كن يقمن بتجميع الشحوم الزائدة من الذبائح، حتى يتجمع لديهن الكميات الكافية لحاجتهن لشهور عديدة، وبعد التجميع يقمن بصهر تلك الشحوم على نار الحطب الهادئة، مع إضافة القليل من الملح في بعض الأحيان، ليخرجن ما يعرف بـ"الصربة"، ولهذه الصربة استخدامات كثيرة في الحياة اليومية كالطبخ والقلي الخبز، فللأرز نكهة تفوق الخيال إذا ما أضيف له القليل من الصربة، وتحمير الدجاج على دهن الصربة يكسبه لونا وطعما آخر، أما تشحيم الطوبح "الصاج" بالصربة، يحافظ عليه لمرات الخبيز القادمة، كما أنه يستخدم عند عدم توفر حل التراب (الكيروسين) كدهن للوقود في سراج أبو سحة؛ اكتفي بهذا القدر من الحديث عن الصربة واستخداماتها التي قد تمتد لتطال البنادق والأسلحة، لألفت انتباهكم أن هذه الشحوم الطازجة كانت تستخدم دهنا وصبغا للآكلين، ولم يكونوا يتحدثون عن الدهون المشبعة أو المهدرجة أو النباتية أو الحيوانية أو الجمادية أو الفضائية أو الأرضية!، كانوا يذكرون اسم الله ويأكلون مما رزقهم الله حلالا طيبا بقدر حاجتهم، وينتقلون مشيا أو على الرواحل.

و ﻷركز حديثي عننا نحن البشر في عصرنا هذا، وما نفعله بأنفسنا من تحريم الطيبات من الرزق بدعوى الحمية "الريجيم"، ظانين بمفردات طعامنا ظن السوء، والذي بدوره يتحول إلى طاقات سلبية تسبب لنا التلبك المعوي داخليا، وتنفرنا من الإقبال على الطعام خارجيا، فيتحول شكل الطبق إلى مرآة مملوءة بالأطباء والأمراض والسواد، عندما نقرأ الآية الرابعة من سورة المائدة، قال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب)، نتأملها لتوضح لنا أنّ جميع الطيبات أحلت لنا، ولم يحرم الله علينا أي رزق خلقه ويسره لنا، إلا ما صدر في تحريمه نص شرعي، ولكن في الجانب الآخر أمرنا بالاعتدال وعدم الإسراف في كل أمر من أمور حياتنا، والطعام يصبح على رأس القائمة، ﻷن الإسراف فيه يجرنا إلى ويلات المرض، وﻷن أجسادنا أمانة فنحن محاسبون على تقصيرنا في غذائنا أو إسرافنا على حد سواء، فمن منا اليوم لا يفكر ويعيد التفكير بسبب تلك الدراسات التي خرجت عيلنا قبل عدة أعوام لتعلن أن البيض مليء بالكوليسترول غير الحميد؟ وبالتالي فهو مضر بالقلب والدم، ليصبح مريض القلب محروما الصفار ويقدم له البياض إن اشتهى أكل البيض، واليوم تخرج دراسات حديثة لتقول لنا إنّ البيض بريء من هذه التهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب - عليهما وعلى رسولنا الصلاة والسلام-..

يجب ألا نتشبه بأي معتقد آخر غير ثوابت ديننا الحنيف، ولنا في التأريخ العظات الكثيرة والعبر المستقاة ممن سبقونا من الأمم، ففي الآية 138 من سورة الأنعام قال تعالى على لسان بني إسرائيل: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون)، فقاموا بتحريم كثير من الطيبات التي أحلت لهم، وجزاهم الله على افترائهم في الآية 146 من سورة الأنعام: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون)...

خلق الله تعالى هذه الأرض لنا لنعمرها بالعمل والجد والاجتهاد، ونستمتع بحلالها، ونبتعد عن الحرام، وأن نبتعد عن توافه الأمور، لحيث يهتم كل شخص منا بتطوير نفسه جيدا، ويتخذ سياسة المحاسبية الذاتية نهجا له في كتابة صحيفة حياته، التي سيتسلمها يوم الدين بيمينه بإذن الله تعالى، وليدع الخلق للخالق، متعاملا معهم بأحسن الأخلاق مهما بلغت جلافتهم واستفزازهم، لنتحدث بلغة النعمة السرمدية التي لا تنتهي، ولنهجر لغة الشكوى والتذمّر التي لا تعمر بل تهدم وتدمر..

-----------------------------------------------------------------

توقيع:"إللي غرب نفسه سافر من آلام المشاعر،،

وإللي نفسه يعيشها تاني هيه هيه المشاعر،،

واللي دارى بابتسامة من عينيه مر المشاعر،،

وإللي نفسه قصاد حبيبه يبان عليه حبة مشاعر،،"

رائعة شيرين عبدالوهاب، مشاعر.