ترامب يقرع طبول الحرب التجارية..!

 

 

عمَّار الغزالي

ammaralghazali@hotmail.com

وجَّه الرئيسُ الأمريكي الجديد دونالد ترامب ضربة في العُمق لاقتصاديات إحدى عشرة دولة بتوقيعه، قبل يومين، قرارًا تنفيذيًّا تنسحبُ بموجبه واشنطن من "اتفاق تجارة الشراكة عبر المحيط الهادي"، مُسدلاً بذلك تتر النهاية على "مسلسل التوقعات والتنبوءات"، ومُؤذنا ببداية عهد جديد يُسلِّط فيه سهام تعهُّداته التي أثارت بلبلةً وجدلاً، غذَّى شُعورًا عالميًّا بمستقبل ينعدم فيه الأمان الاقتصادي، وليشعل فتيل حربٍ تجاريةٍ عالميَّة ستقوِّض بلاشك آفاق الاقتصاد العالمي وتفاقم أزماته.

فالعقيدة الاقتصادية التي يُؤمن بها ترامب -غير المتصالِح مع أحد- تحملُ بين طياتها صندوقًا أسود يُكرِّس لمبادئ سُلطوية توسُّعية -ألمح إليها خلال خطاب التنصيب بأن "أمريكا أولا"- تحملُ مزيجًا من التناقضات، عبَّرت عن سلبيات تداعياتها أجندة مُنتدى دافوس الأخير، التي حملتْ قائمة طويلة من المخاوف، نَزَع ترامب فتيلها بما يُشبه إعلان حرب من إدارة "ميكافيللية" على السياسات الحاكمة للنظام الاقتصادي اليوم.

ومُصطلح "الحرب التجارية" يؤشِّر على قيام دولتين أو أكثر بفرض حواجز تجارية على بعضها البعض؛ وهو ما انطوتْ عليه وعود ترامب بفرض قيود جمركية تستهدف الصادرات الصينية والمكسيكية على وجه التحديد، وتنديده في أكثر من موقف بالتبادل التجاري الحر، وضرورة تعظيم الحمائية التجارية لبلاده؛ حمايةً لمنتجيه ومورِّديه الوطنيين، وتحديد نسبة 45% رسومًا على السلع والخدمات الأجنبية، و30% على ما تنتجه شركات أمريكية خارج الولايات المتحدة وتسوقه فيها.

والحربُ التي دُقَّت طبولها بالفعل من قلب واشنطن، وتحديدا في مقاطعة كولومبيا حيث مقر البيت الأبيض، لا تمس فقط الدول المتضرِّرة من الانسحاب الأمريكي المفاجئ من اتفاق "المحيط الهادي"، وإنما هي في الأساس بداية لمعركة أشرس تمسُّ مصالح قوى عظمى مؤثرة في القرار الاقتصادي والسياسي والأمني الدولي والإقليمي؛ فالصين بتأثيرها الواسع في الإقليم العربي والقارة الإفريقية، وحضورها القوي في مجالها الحيوي بشرق آسيا والباسفيك، تقف في جانب، بينما تقف الولايات المتحدة باتساع نفوذها في الجانب الآخر. وفي الزاوية الثالثة، تقف المكسيك أكبر دول أمريكا الشمالية في صناعة السيارات، والغريم القوي لواشنطن في القطاع، مترقبةً هي الأخرى تلميحات ترامب بإعادة النظر في اتفاقيات تجارية معها.

والصين التي أحيت منذ شهور "طريق الحرير" بمبادرة تتخطى الخمسين مليار دولار، كأكبر شبكة تجارة بينية تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا، تملك اليوم اقتصادًا نَهِم لمصادر الطاقة والمواد الخام الأجنبية؛ وهي تستورد جزءًا مُهمًّا من احتياجاتها الطاقية من إفريقيا ودول مجلس التعاون، وهذه المنطقة هي مسرح السيطرة الأمريكية. فيما لا تقل أوراق الضغط التي تمتلكها بكين عن تلك التي بيد واشنطن؛ فتحالف الصين مع روسيا والاتفاق على تسعير المبادلات التجارية بالعملة المحلية لكلا البلدين، هو كسر لهيمنة الدولار في المعاملات التجارية الدولية، كما أنَّ توجه الصين نحو التحالف مع الروس والتنسيق معهم في مجلس الأمن في العديد من القضايا الدولية هو تحالف آخر لكسر هيمنة الولايات المتحدة وإخراجها التدريجي من مناطق النفوذ التي ورثتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ووطدت هيمنتها بها بعد نهاية الحرب الباردة.

وبطبيعة الحال، فإنَّ أيَّ سياسة متهورة تمس المجال الحيوي لكليهما ستكون لها انعكاساتها وتأثيراتها السلبية على مستويات واسعة جدا.

أمَّا المكسيك، والتي يبلغ حجم تجارتها البينية مع واشنطن 550 مليار دولار سنويا، فرفعت هي الأخرى استعدادها الاقتصادي للدرجة القصوى، إزاء تهديدات ترامب "الراديكالية" ببناء جدار عازل بين الدولتين، وترحيل 5 ملايين مهاجر غير شرعي، ومعاقبة أي شركة أمريكية تنقل مصانعها إلى هناك، مما أذْكَى المخاوف من تأثيرات تلك السياسات المتشدِّدة على الاستثمارات المباشرة، والتي كانت بدايتها تكبُّد أكبر مؤشرات الأسهم المحلية خسارة 12%.

إنَّ العالم اليوم بات في مُواجهة صريحة ليست مع تصريحات وتوقعات، بل هي أفعال واقعية تتسم بالتهوُّر والحفاظ على المصالح، في لعبة تبادل المواقع بين القوى العظمى، التي ستُحدث بالتأكيد فجوات في جدار الاقتصاد العالمي المتهالك، فتستنزف موارد الكبار، وسيكون الخاسر الأكبر فيها هو الاقتصاد العربي؛ باعتباره الحلقة الأضعف؛ والذي تزلزلت أسواقه على وقع تلك المخاوف، واكتفى لاعبوه بـ"الترقُّب" حتى إشعار آخر؛ مما يشرع الأبواب أمام حديث جاد يستوجب إيجاد خطوط دفاع حقيقية تضمن على الأقل تحجيم التأثيرات المُتوقعة لحرب ستكون "شعواء" بلا أدنى شك.

خط الدفاع الأول ترسمه مراجعة جادة للتشريعات المنظِّمة للكيان الاقتصادي الداخلي ومراجعة شاملة  للعلاقات الاقتصادية بمها فيها التبادل التجاري وفق منظور إستراتيجي، وتبنِّي مفهوم "تجارة القيمة المضافة"، التي لا تعني مجرد تبادل سلع وخدمات واستيراد وتصدير، بقدر ما هي مؤشر يعكس مستوى تطور الاقتصاديات وقوتها، وإعادة النظر في سياسات الانفتاح على الأسواق العالمية الأخرى، وتعظيم المحتوى المحلي من السلع المستهلكة لخفض الاعتماد على الواردات، وبما يمنح الموازين التجارية مُعدَّلات إيجابية تُسهم في تخفيف العبء على موازين المدفوعات، شريطة أنْ تنطلق كل هذه الاحتياطات عبر قناة تكاملية بين القطاعين العام والخاص.

إنَّ رَحَى الأحداث من حولنا، والتي زَادَ سرعة دورانها الرئيس الأمريكي الجديد، لتفرضُ ضرورة استحداث أنماط اقتصادية جديدة، وتكوين شراكات وتحالفات حقيقية، وفق رؤى محدَّدة وواضحة المعالم، تحفِّز على الاستجابة للمستجدَّات، وتضمن تحوُّلاً من خانة "رد الفعل" أو المشاهِد المترقِّب، لنكون لاعبين أساسيين في قلب الحدث وصانعين للأسباب، قبل أنْ تتهاوى قطع الشطرنج واحدة تلو الأخرى على رُقعةٍ يَحْكُمها الكبار، الكبار فقط.