كثُرَت وسائل الاتصال فقل التواصل

 

 

طالب المقبالي

 

عُرِف العربُ، منذ قديم الأزل، بالكرم والجود وحُسن الضيافة؛ فكان العرب يتسابقون في استضافة زائر غريب قد حط بأرضهم وإلى ديارهم، وكانوا يُقدِّمون له أجودَ ما لديهم من طعام وزاد، وكان الضيف لا يُسمح له بمغادرة الديار إلا بعد مرور ثلاثة أيام كحدٍّ أدنى؛ وذلك كي ينال شرف استضافته وإكرامه جميع أهل الحي.

ولعلِّي لحقتُ بحقبة من الزمن شهدتُ فيها شيئاً من هذا في عهد الوالد -رحمه الله- أوائل سبعينيات القرن الماضي؛ حيث لم أذكر يومًا تناولنا فيه طعامَ الغداء دون وجود ضيف، فكان منزل الوالد كنُزُلٍ، ما إنْ يرحل زائر حتى يأتي آخر.

وكان الوالد -رحمه الله- يأمر بإطعام ركائب الزائرين من الإبل والحمير والخيول، وكان الزائر يبيت ليلة أو ليلتين حسب المهمة التي قَدِم إليها.

فبرغم كثرة الزائرين لم أرَ الوالد عبوساً أو مُتضجرا من كثرة الضيوف، وإنما أراه دوما مبتسما مسرورا، وهذه شيمة الأوائل جميعاً، ولكن سُقت هذا المثال لمعايشتي له، وهنا ربما قد ينتقد البعض سيرة شخصية للوالد -رحمه الله- فقد انْتُقِدتُ في مقالات سابقة لتطرقي إلى جوانب شخصية وأمور عشتها في طفولتي، وإنْ كان هذا من وجهة نظري جزءًا من تاريخ عشناه وعاشه الآباء والأجداد، ولا ضَيْر في إطلاع الأجيال عليه، طالما أنه تاريخ مشرف وعادات حميدة.

لقد تطوَّرتْ البلاد، وانتشرت السيارات، واستغنى الناس عن الحيوانات، وأصبحت السيارة هي الوسيلة الأفضل للتنقل، وقرَّبتْ المسافات بعد تعبيد الطرق؛ مما سهل التواصل بين الناس، وازداد الترابط قوة من حيث النسب.

ومع بُزُوْغ فجر الإنترنت، ظهرتْ وسائل حديثة للتواصل، فقرب البعيد، وأصبح العالم كقرية صغيرة. ومع هذا الانفتاح، وظهور برامج التواصل الاجتماعي، تراجع التواصل الجسدي -إنْ صح التعبير- فأصبح التواصل حسيًّا من خلال هذه الوسائل، فلم يعُد هناك زوار كما كان، حتى صلة الأرحام أصبحت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت الزيارات توصف بإضاعة الوقت أحياناً، وأحياناً أخرى توصف بأنها مكلفة وخطرة.

سابقا.. كُنَّا نعرف كل الناس، وأصبحنا لا نعرف حتى الأقرباء الذين يعيشون بعيداً.

لقد هُجِرت السبلة، وأصبحت مغلقة، إلا في المناسبات والإجازات الطويلة، كإجازات الأعياد التي لا بد للأسرة أن تقضي الأعياد في أجواء عائلية مفعمة بمشاعر الود والحب. وأخشى ما أخشاه أن تندثر هذه العادة، وتزول مع الأيام، بحجة أنَّنا نلتقي كل حين من خلال التواصل بالصوت والصورة عبر هذه الوسائل. حتى التعليم والندوات والمحاضرات والاجتماعات تتم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

لقد سبق وكتبت مقالاً في موضوع وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان "هل ستصبح وسائل التواصل سببا في التباعد"، يتناول أبعاداً عديدة عن هذه العادة التي أصبح الناس مدمنين عليها، ولن أكل ولن أمل في الكتابة عن هذا الموضوع لما له من أهمية.

وقبل أيام، أعجبني مقال يُتداول عبر الواتساب عن المفاخرة بتقديمات الضيافة التي أفسدتْ فرحة اللقاء، وأصبح التزاور همًّا بعد أن كان سروراً.. يقول صاحب المقال: "ما أجمل البساطة والتواضع؛ فالناس لم يذهبوا لبعض من مجاعة ليأكلوا ما لذ وطاب عندهم، إنما ذهبوا للأنس، ولكن البعض حوَّل هذا الأنس والإخاء إلى تعب وهم وشقاء.. فقلَّ المتزاورون، وثقل الضيف على المزورين، لما ذهبتْ البساطة، وطغت الكلفة".

نعم.. لقد قلَّت الزيارات أيضاً بسبب المبالغة في الضيافة والإسراف في الولائم التي قد تصيب الضيف بالحرج وتحسِّسه بأنه ضيف ثقيل؛ مما يجعله يُعيد حساباته مُستقبلا عند زيارة قريب أو صديق قد أسرف وبالغ في ضيافته.. خيرُ الأمور الوسط، وأفضل من ذلك رحابة الصدر وتقديم ما هو مقدور عليه دون إسراف.

muqbali@hotmail.com