الثقافة الإلكترونيّة

 

 

عبيدلي العبيدلي

 

في خضم الشغف المتزايد للمواطن العربي بالانغماس في خدمات الإنترنت ومنتجاتها، تغيب عن ناظري الكثير من مستخدمي الإنترنت العديد من القضايا التي بحاجة إلى المزيد من التمحيص، من أجل التأصيل لها، ووضعها في إطارها الفكري السليم. من هذه القضايا مفهوم ما أصبح يعرف بالثقافة الإلكترونية، والذي اكتسب مؤخرًا حضورًا مكثفا شملته كتابات الباحثين بمن فيهم علماء في علم النفس والاقتصاد على حد سواء.

وكمدخل سريع، يضع خلفيّة مشتركة يمكن تعريف الثقافة الإلكترونية، كما جاء في مقال نشره موقع القسم العربي في إذاعة الصين الدولية حمل عنوان "الثقافة الإلكترونية عصب الموجة الثالثة"، بأنّها "تشكيلة ثقافية جديدة تجمع بين الشفوي والمكتوب، وتدمج كل التقنيات والوسائل والاكتشافات السابقة. فأداتها هي كل العناصر مجتمعة: الحروف المطبوعة والأصوات، الصور، الأيقونة، الألوان، الأنغام، أي كل التجديدات والاكتشافات الفيزيائية والكيميائية في مجال الصوت والصورة مُشكلةً ما يسمى بالوسائط المتعددة، التي تعني إلغاء الفروق والتمييزات بين الوسائل السمعية البصرية والوسائل المكتوبة، مثلما تلغي الحدود والفواصل الصلبة القديمة بين الثقافة المحلية والثقافة العالمية."

وهذه الثقافة، وكما يعتبرها الكاتب الصحفي محمد علي صالح، بخلاف الثقافات الأخرى السابقة، "لم يعد الغرب هو عمادها، ذلك لأن الإنترنت جعل العالم قرية، وجعل نفسه حلقة الاتصال. وتقول آخر الأرقام إنّ 500 مليون شخص يشتركون في الموقع الاجتماعي (فيس بوك)، ويكتبون بأكثر من مائة لغة، (مضيفا ومؤكدا أنّها) عكس (ما بعد الحداثة)، وعلى طريق (الحداثة)، يبدو أنّ الثقافة الإلكترونية تتجه نحو مفاهيم تقليدية، مثل حب الوطن، وجمع شمل العائلة والدفاع عن الحرية ونشر العدل. ولأن كل واحد صار صحافيا على الإنترنت، فإنّه يبدو أنّ الثقافة الجديدة ستكون أكثر ديمقراطية من أي ثقافة سبقتها".

وكما يبدو من المواد المنشورة على "الويب"، فإنّ هناك غوصا عميقا في ثنايا هذه الثقافة، وصلت إلى  حد الانتقال من الثقافة الإلكترونية كمفهوم، إلى من يمتلك هذه الثقافة، وهو ما ينوه له الكاتب  زاهي رستم الذي يعرف  المواطن الإلكتروني، على "أنه مواطن (موجود داخل الدولة أو مغترب) والذي يحسن التعامل مع الخدمات العامة الإلكترونية التي توفرها حكومته الإلكترونية، عن طريق استخدام الفئة. فالمواطن الإلكتروني هو في الحقيقة مواطن عادي ولكن زُوِّد بمهارات تمكنه من استخدام الخدمات الإلكترونية المتاحة في بوابة حكومته الإلكترونية. وعلى الحكومة العمل على إعداد مواطنيها وتدريبهم وتعريفهم على الخدمات المتاحة، والتعرف على الخدمات التي يحتاجونها، تماماً مثلما تقوم بإعداد موظفيها".

وقفة خاصة جميلة ولفتة مثيرة يتميز بها الكاتب خليل الجيزاوي عندما ينقل عن أستاذ النقد الأدبي بكلية دار العلوم جامعة الفيوم، مصطفى الضبع معالجته لقضية انتشار الثقافة الإلكترونية في المنطقة العربية واعتراضه على بعض التساؤلات التي يثيرها بعض المثقفين العرب مشددا "نحن – للأسف - مازلنا نطرح أسئلة البدايات ومن أشهرها - ما هو مستقبل الكتاب الورقي في ظل الكتاب الإلكتروني؟ وهي أسئلة فاسدة لأنها لا تفضي لاحتمال صحيح للإجابة، هذا إذا كنا بالفعل نبحث عنها، فليس ثمة تناقض بين الإثنين وقد أفاد الكتاب الورقي من النشر الإلكتروني وتطبيقات الكمبيوتر أكثر مما أفاد الكتاب الإلكتروني ففي ظل ما يعانيه الكتاب العربي من حركة تعوقها الكثير من المعوقات بات من الأهمية بمكان أن يسعى المجتمع العربي إلى الإفادة من شبكة الانترنت أكثر من غيره من المجتمعات."

لكن الجيزاوي عن غيره من العرب ممن تناولوا مسألة الثقافة الإلكترونية عندما يلج قضاياها من زاوية سياسية محضة، وتحديدا التكوينات السياسية التي فرختها الثقافة الإلكترونية حين يشير إلى "الجديد مما طرحته الثقافة الإلكترونية"، فنجده يقول "وسأتوقف فقط عند ما أسميه بالأحزاب الإلكترونية (المنتديات). لقد احترمت المنتديات ما غاب عن وعى الأحزاب السياسية مما جعل الأحزاب الإلكترونية منافساً قوياً للأحزاب السياسية التي إذا ما قورنت بنظيرتها فالنتيجة خروجها من الخدمة بانتهاء صلاحيتها بعد فقدانها القدرة على احترام التخصص الذي أقرته الأحزاب الإلكترونية وهو ما فتح المجال لتنوعها، ويكفي أن نلقي نظرة على أدلة المنتديات لنكتشف بجلاء هذا التنوع والتعدد.

وفي الاجتهادات العمودية الخاصة بانتشار الثقافة الإلكترونية، واتساع نطاق تأثيراتها، يعرج الباحث أحمد محمد اللويمي في مقالته المتميزة "الثقافة الإلكترونية وأبعادها التربوية"، مشيرا إلى سلبية تفرزها الثقافة الإلكترونية في مجال البحث العلمي، فيقول منوها "ولكن لأي بعد إيجابي أثرت سهولة النشر في جعل المنتج الثقافي الإلكتروني أكثر أصالة؟ إن سهولة الإنتاج تغري هذه الفئة العمرية للتسابق في نسخ ولصق الكثير من المعلومات غير المثبتة بدل أن تكون هذه السهولة مدعاة للتعمق في البحث. انفتاح أبواب النشر على مصراعيه يغري هذا الانتشار الفادح للعصبية والتسطيح الفكري والاقتتال الديني والمذهبي وأصبح بدل إشاعة روح الحوار والتقارب فضاء الثقافة الإلكترونية تلفه غيمة سوداء تلبد العقول والقلوب بكل هذه الكراهية والإرهاب".

وكغيرها من الظواهر المجتمعية الأخرى لا تخلو الثقافة الإلكترونية من بعض المثالب، التي يرصدها الباحث إبراهيم سعيد البيضاني من العراق، في مقالته الموسومة " التحولات المجتمعية في ظل الثقافة الإلكترونية". فنجده يستطرد، بعد سرد إيجابيات هذا النوع من الثقافات، إن جاز لنا القول، في تحديد أهم السلبيات لها بالقول" من الانعكاسات السلبية لاستخدام الإنترنت وشيوع الثقافة الإلكترونية على التكوين الاجتماعي أن وفّر وسيلة سهلة أمام مرتكبي الجرائم لانتهاك الأعراض والحرمات والتغرير بالأطفال وتشويه السمعة، والإساءة إلى سمعة المجتمعات  الإسلامية، فضلا عن عمليات تزوير بطاقات الائتمان ودعارة الأطفال، واستخدم الانترنت في الابتزاز والتهديد وجرائم انتحال الشخصية والتغرير والاستدراج التي تستخدم مع الأطفال من مستخدمي الانترنت من خلال الإغراء بنشر الأفلام والصور الإباحية، وهذه المخاطر الناجمة عن استخدام وسائل الاتصال المتطورة دفعت دول العالم إلى عقد مؤتمر في بودابست لتوقيع الاتفاقية الدولية الأولى لمكافحة الإجرام عبر الانترنت".