تحدِّيات اللغة العربية (2-2)

 

 

 

عبدالله العليان

أشار د.أحمد يوسف الأستاذ بجامعة السلطان قابوس، في ندوة "اللغة العربية والتحديات" -منتقدا المفكر المعروف المرحوم د.محمد عابد الجابري- إلى ما قاله عن العربية "بأنَّها لغة البيان وليست لغة البرهان"، وهذا ما انتقده البعضُ حول ما قاله في الجزء الثاني من كتابه "نقد العقل العربي".

لكنْ أيضاً الحقيقة أنَّ الجابري تحدَّث عن العربية بإكبار وتقدير، في الجزء الأول من نقد العقل العربي (التكوين)، وقال ما نصه "إذا كانت الفلسفة هي "مُعجزة " اليونان، فإنَّ علوم العربية هي "معجزة" العرب. والحقُّ أنَّ ذلك العمل العظيم الذي تمَّ في عصر التدوين على مستوى جمع اللغة وتقعيدها كان بالفعل أشبه شيء بالمعجزة. وهل المعجزة شيء آخر غير "خرق العادة"؟ ثمَّ هل هناك "خرق للعادة" أبْلَغ وأعمق من تلك السرعة التي تم بها الانتقال بلغة قائمة على "الفطرة والطبع"، لغة لا يُمكن تعلُّمها ولا فهمها إلا بالعيش وسط القبائل التي تتكلمها، إلى لغة قابلة لأن تكتسب وتتعلم بنفس الطريقة التي يكتسب بها العلم: طريقة المبادئ والمقدمات والمنهجية الصارمة؟ بالفعل، لقد كان تدوين اللغة أكثر كثيراً من مجرد "تدوين" بمعنى تسجيل وتقييد: أنه الانتقال باللغة العربية من مستوى اللاعلم إلى مستوى العلم. إنَّ جمعَ مُفردات اللغة وإحصاءها وضبط طريقة اشتقاقها وتصريفها ووضع قواعد لتراكيبها واختراع علامات لرفع اللبس عن كتابتها.

كل ذلك لا يُمكن أن يُوصف بأقل من إنشاء علم جديد هو علم اللغة العربية، لا بل إنشاء لغة جديدة هي اللغة العربية الفصحى. وسواءً ربطنا عملية جمع اللغة -كما يقول الجابري- وتقعيدها بالرغبة في إنقاذ لغة القرآن من الانحلال والانحراف، وبالتالي الذوبان، بسبب تفشي "اللحن" في المجتمع الإسلامي الجديد الذي أصبحت الأكثرية فيه خلال عصر التدوين غير عربية ولا تعرف العربية، أو ربطناها بحاجة الكتاب الفرس إلى تعلم اللغة العربية للحفاظ على امتيازاتهم ومناصبهم بعد تعريب الدواوين، كما يقترح ذلك بعض الباحثين المعاصرين، فإنَّ النتيجة واحدة وهي أنَّ العملية أسفرت عن تحويل اللغة العربية من لغة غير علمية (أي غير قابلة للتعلم بطرق علمية) إلى لغة علمية، لغة تخضع لنفس النظام الذي يخضع له أي موضوع علمي آخر" (تكوين العقل العربي، ص:80). فالجابري يرى في هذا الكتاب نفسه الذي نقل عنه طرابيشي، بأنه اتهم اللغة العربية بالبداوة، وبأنها لغة الصحراء، متجاوزا بعض ما قاله عن هذه المسألة، دون النظر إلى رؤيته كاملة، وما اقتبسنا من كلامه في الفقرة السابقة، يبرز أن الجابري يحترم ويقدر اللغة العربية، ويعتبرها "معجزة العرب".

ولم يتوقف تقدير الجابري في هذا الصدد عن جهود العلماء العرب والمسلمين في ضبط هذه اللغة فيقول: "لا يمكن للمرء إلا أن يزداد إعجابا وتقديراً لهذا العمل العظيم حينما يأخذ بعين الاعتبار المدة الوجيزة التي تم فيها انجازه والمجهودات الجبارة التي بذلها طواعية وبدون أجر رجال ندبوا أنفسهم وصرفوا من أموالهم ولسنين طويلة لانجاز هذه المهمة الشاقة التي لم يكونوا، بالتأكيد يطلبون من ورائها أي مكسب. لقد أمدوا الأجيال اللاحقة بلغة مضبوطة مقننة قابلة للتلقي والتعلم وبالتالي قادرة على حمل الثقافة والعلم من السلف إلى الخلف". (نفس المرجع، ص:81).

وفي كتابه "التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات"، ناقش الجابري نشأة البلاغة في الثقافة العربية الإسلامية؛ فيقول: "الواقع أنَّ نشأة علم البلاغة في الثقافة العربية الإسلامية كان -مثله مثل العلوم العربية الأخرى- بدافع حاجة داخلية في هذه الثقافة نفسها، ولم يكن بسبب تأثير خارجي. لقد كان تحليل الخطاب البلاغي العربي يرمي للكشف عن منطقه الداخلي بهدف استثمار النص القرآني في مجال الشريعة والعقيدة معاً".

فمن جهة، كان لا بد من استنباط الأحكام الشرعية من القرآن من المعرفة المنظمة "المقننة" بأساليبه في التعبير. ومن جهة ثانية، كان لا بد لمواجهة المنكرين لإعجاز القرآن من بيان وجوه هذا الإعجاز. والحقُّ أنَّ تأسيس البلاغة كعلم من العلوم العربية الإسلامية إنما يرجع الفضل فيه إلى المتكلمين الأوائل، خاصة المعتزلة، الذين كان عليهم أن يواجهوا خصوماً (الزنادقة والشعوبيين) الذين ركزوا على إنكار إعجاز القرآن ضداً على الإسلام والعرب جميعاً، فكان لا بد من الكشف عن "دلائل الإعجاز" في الكلام العربي، وبيان "أسرار البلاغة" فيه، وذلك ما تصدى له البلاغيون الأوائل الذين حللوا الخطاب العربي البليغ من داخله، أي دون أن يتخذوا من أرسطو أو غيره إطاراً مرجعياً لهم؛ فكانت النتيجة أنهم شيَّدوا "القسم الثاني" من المنطق العربي -منطق اللغة العربية- بعد أن كان النحاة قد انتهوا من تشييد "القسم الأول" منه. لقد بدأ النحاة بتقنين الخطاب العربي وتحديد مقولاته وقوالبه المنطقية، وها هم علماء البلاغة يتمُّون عملهم ببيان وجوه الإعجاز في نفس الخطاب، أي الكشف عن آلياته في البيان والبرهان" (ص:151).

المهمُّ أنَّ اللغة العربية تستطيع أن تواجه التحديات، إذا ما جعلنا اهتماماتنا بهذه اللغة والتركيز عليها في كل أوجه العلوم، وليست العلوم الإنسانية فقط، على الأقل كما أحيا اليهود لغتهم الميتة في العصر الحديث.