في العلاقة بين الاقتصاد والسياسة (2-2)

 

 

 

عبيدلي العبيدلي

في خضم عمليات البحث عن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وتأثير الأول العميق على الثانية، استوقفتني كلمة رئيس اتحاد القنوات العربية الخاصة الشيخ فهد سالم العلي الصباح، على أبواب انعقاد القمة العربية الاقتصادية في الكويت في مطلع العام 2009، حين قال في لقاء أجرته معه وكالة الأنباء الكويتية (كونا) "إن سمو الأمير يعلم تماما تأثير الاقتصاد على السياسة بين الدول، وأنه إذا صلحت الأحوال الاقتصادية، فإن الأمور السياسية ستتحسن بنسبة كبيرة".

 

هذا يعني أن الدوائر الحاكمة الخليجية قبل العربية، تدرك عمق تأثير الأحوال الاقتصادية على الأوضاع السياسية. ومن ثم فليست الصدفة المحضة هي التي تجعل تلك الدوائر تولي الظروف الاقتصادية نسبة لا يستهان بها من اهتماماتها. وهو أمر يشير له موقع "الاشتراكي" الإلكتروني (http://revsoc.me/publications/30196/4-%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/) بوضوح، حين ينشر ما يصفه بالأطروحتين الأساسيتين اللتين "تروّج لهما الطبقة الحاكمة بحماسة شديدة.... في كافة أرجاء العالم. وتستخدم الطبقة الحاكمة هاتين الأطروحتين من أجل الحول دون تقدم الحركات والثورات الجماهيرية ومن أجل ضمان السيطرة على مجريات الأمور في المجتمع. يتلخص مضمون الأطروحة الأولى في أن هناك فاصلاً كبيراً بين الاقتصاد والسياسة. وبالتالي تقوم تلك الفكرة على أن جماهير العمال والفقراء الذين يناضلون من أجل حقوقهم الاقتصادية ومن أجل العدالة الاجتماعية، لا دخل لهم بالشأن السياسي ولا يستطيعون صياغة القرارات السياسية؛ وبالتالي لا يحق لهم المشاركة الديمقراطية في المجتمع سوى بأن يختاروا نواب عنهم يمثلونهم في البرلمان ويكونون هم المسؤولون عن صياغة التوجهات السياسية والاجتماعية التي تشكل حياة الملايين من الناس".

وعلى نحو مواز، هناك من يرى في العلاقة معادلة مركبة تنسجها عناصر التأثير المتبادل بينهما كما يراها الكاتب عبدالعلي حامي الدين، حين يقول: "إن وضعية الاقتصاد الوطني لا يمكن فصلها على النموذج السياسي المتبع، فالحالة الاقتصادية هي نتيجة لاستمرار نموذج تسلطي، يسمح بالتداخل بين النخب الحاكمة وبين عالم المال والأعمال في إطار شكلي لليبرالية الاقتصادية، ويعتمد على شركاء اقتصاديين تقليديين يراعون مصالحهم بالدرجة الأولى، ويبسط آلياته التحكمية على عالم المال والأعمال، (مضيفا) أن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة علاقة وثيقة، والكثير من الصراعات السياسية تخفي وراءها مصالح اقتصادية كبرى، كما أن الكثير من التحليلات الاقتصادية تخضع لخلفية سياسية غير بريئة، وتزداد هذه العلاقة تعقيدا والتباسا حينما يكون الفاعل السياسي فاعلا اقتصاديا في نفس الوقت، أو متحكّما في الفاعل الاقتصادي.

يُشاركه هذا المذهب المشرف على العلاقات الثنائية والقانونية في سفارة العراق بالرياض معد العبيدي، الذي يؤكد على أن "العلاقة بين مستوى التقدم السياسي واستقرار الحكم من جهة وبين مستوى التقدم الاقتصادي من جهة أخرى، من العلاقات المتشابكة المثيرة للاهتمام كونها علاقة تبادلية، فالانتعاش الاقتصادي لبلد ما يساعد على استقرار النظام السياسي فيه. بينما تؤثر المصاعب الاقتصادية بشكل سلبي في درجة قبول الشعوب نظم الحكم السائدة في بلادها. ومن جانب آخر، نلاحظ أن الاستقرار السياسي يعدّ عاملاً رئيساً من العوامل المساعدة على الانتعاش الاقتصادي، والعكس بالعكس، فعندما تعصف المشكلات السياسية ببلد ما ينعكس ذلك بجلاء واضح على الأداء الاقتصادي للبلد".

ولعلَّ أفضل من صاغ العلاقات بين الاقتصاد والسياسة على نحو جلي ومعمق، وفي صيغة معادلات ديناميكية متحركة هو كارل ماركس الذي كتب في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، "في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية. ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي قانوني وسياسي وتتمشى معه أشكال اجتماعية. فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".

تلك المقدمة المطولة، والتي استحضرت العديد من الاستشهادات المتفاوتة بين الاقتصادي المحض والسياسي الخاص، وما بينهما توصلني إلى ما نوه له الناطق الرسمي باسم اتحاد التجار والحرفيين الجزائريين الطاهر بولنوار حين أكد على أن "90 بالمائة من الخبراء والأساتذة والمفكرين غير منخرطين في الأحزاب السياسية، وأن نسبة 70 بالمائة من التجار كذلك من غير المنخرطين بها، وهو ما يعني أن التنمية الاقتصادية ليس من أولويات هذه الأحزاب، في الوقت الذي دعا فيه إلى أسبقية الاقتصاد على السياسة، على اعتبار أن السياسة في خدمة الاقتصاد وليس العكس".

والقصد من ذلك أن العديد من المنخرطين في العمل السياسي العربي لا يكفون عن ترديد عبارات مثل تلك التي أوردناها أعلاه، لكنهم في برامجهم السياسية، وأنشطتهم اليومية يضعون هذه العلاقة وتأثيراتها في أسفل سلم مهماتهم النضالية، ولعل ذلك من الأسباب التي تفسر حالة الانكسار السياسي، والانحسار الجماهيري التي يعانون منها، الأمر الذي يدعوهم إلى إعادة النظر، ليس في تلك البرامج فحسب، وإنما أيضا في خطط تنفيذها وخطوات ترويجها.

وكما بدأ هذا الحديث بزيارة الخبير الاقتصادي، ينتهي بالإشارة إلى ما لم يكف عن التأكيد عليه في تلك الجلسة، ومفاده ان المرحلة التي نمر بها تقتضي التركيز على القضايا الاقتصادية، والتي تبدأ بهموم المواطن العادي اليومية، وتعرج على المشروعات الاقتصادية الرئيسة، كي تتكامل جميعها في نهاية المطاف في خطة اقتصادية وطنية لا تغيب عن أذهان القيمين عليها الأهداف الكبرى التي بوسعها أن تجعل من البحرين نموذجا اقتصاديا ناجحا يحتذى به، وحينها، وضمن علاقات التبادل المركبة بين الاقتصاد والسياسة لن يكون من الصعب أن ننجح في بناء النموذج السياسي البحريني الذي نتطلع إليه جميعا.