تحدِّيات اللغة العربية (1-2)

 

 

عبدالله العليان

الندوة التي نظَّمتها مكتبة دار الكتاب العامة بصلالة -التي أسَّسها المرحوم الشيخ عبدالقادر الغساني- بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، والتي حملت عنوان "اللغة العربية والتحديات"، وشارك فيها العديد من الباحثين في اللغة العربية وآدابها، كانت في غاية الأهمية من حيث الموضوعات التي طرحت في هذه الندوة من قبل الباحثين في مسألة التحديات التي تواجه العربية في عصرنا الراهن، ومن أبنائها للأسف؛ حيث أصبحتْ بعض جامعاتنا في الكثير من الدول العربية تدرس باللغات الأجنبية، وبعض الجامعات تدرس حتى العلوم الإنسانية باللغة الإنجليزية والفرنسية، وهذا هو الخطر الكبير على اللغة التي تمثل الهوية العربية، ولغة القرآن الكريم.

لا شكَّ أنَّ الحوارَ والنقاشَ حول تحديات اللغة العربية ضروري للتنبيه على تغييب وإقصاء العربية في بعض مراحل التعليم، وهذا شكل خطراً على الجودة في بعض العلوم، وعلى التنمية والتقدم، ودول كثيرة غيَّبت لغتها وقدمت اللغات الأجنبية في التعليم، فتراجع مستواها، وليس العكس. وذكر أحد الباحثين في هذه الندوة أنَّ الجمهورية الفرنسية تجّرم بالقانون تعليم المواطن الفرنسي بلغة غير الفرنسية وعمره أقل 12 عاما، وهذا يعني أن هذه السن هي سن تشكيل الوعي  لدى الطفل، كما أنَّه ليس صحيحا أنَّ اللغة العربية غير قادرة على استيعاب العلوم الحديثة، وهذا ما قاله بعض المستشرقين الذين مهَّدوا للحملة الاستعمارية، وأرادوا تغييب اللغة بهدف محو الهوية لإدامة استعمارهم وطمس ثقافة الشعوب؛ فاللغة العربية تفوق في قدرتها الكثير من اللغات الأخرى، من حيث سعة مفرداتها اللغوية، وقدرتها على التعاطي من كل العلوم الحديثة، وهذا ما ظهر مع العلوم المختلفة التي ازدهرت مع الحضارة العربية الإسلامية في العصر الأموي والعباسي، وبعض العصور التالية، وقد كان اشتغالهم وعلوهم ومؤلفاتهم من خلال اللغة العربية، وليس باللغات الأجنبية، صحيح أنهم استفادوا من الترجمة في مجال العلوم المختلفة، لكنهم ترجموها للعربية، وأضافوا وأبدعوا فيها. والحضارة الغربية أيضاً، استفادت من الحضارة العربية الإسلامية، وهذا باعترافهم بفضلها على حضاراتهم منذ القرن السابع عشر، وما بعده؛ لذلك فإنَّ الانبهار باللغة الأجنبية والاعتقاد بأنَّ تفضيلها يجلب التقدم والنهضة، هذا ليس صحيحاً أبداً، تراجعنا ليس بسبب اللغة، لكن الأصح أننا نحن من أُصابنا بالتخلف لأسباب سياسية وفكرية، وظروف تاريخية، نتحمَّلها نحن بالذات، حتى لا نلقي بأخطائنا على المؤامرات الخارجية، صحيح أنَّ الصراع بين الأمم والحضارات حاصل لا محالة، وهذا ما يسميه القرآن الكريم "بالتدافع"، وتلك سُنَّة إنسانية، لكن لماذا نحن نتراجع وهم يتقدمون؟ الخلل إذن فينا، وهذا يحتاج إلى مراجعة من أهل الاختصاص؛ فالذي أريد أقوله أنَّ اللغة العربية ليست ضعيفة أمام التحدي الحضاري، لكن الضعف في الأمة نفسها وليس في لغتها، وأصاب لغتنا مما نحن فيه، لذلك اعتقد البعض أنها هي السبب!! واللغة العبرية لليهود، كانت ميتة -كما قيل- مثل الكثير من لغات الشعوب، لكنهم بعد وعد بلفور، واحتلال فلسطين بعد حرب 1948، أحيوا هذه اللغة الميتة، وصارت لغة العلم والصناعات والعلوم الإنسانية المختلفة، مع أنَّ علماء اليهود في العصر العباسي وما بعده من العصور العربية الإسلامية، كانوا يكتبون ويؤلفون كتبهم باللغة العربية، ويذكر المفكر عزمي بشارة في إحدى الندوات في بلد عربي أنني "زرت كل مناطق عاصمة الكيان الإسرائيلي (تل أبيب)، ولم أجد مدرسة خاصة تدرس اللغة الإنجليزية، أو أي لغة أجنبية، كل المدارس باللغة العبرية؛ فالعبرية لغة اندثرت منذ قرون، تم إحياؤها من جديد، مع أنها كانت لغة ميتة، وكان اليهود في العصور الوسطى وما بعدها، وفي فترة الحضارة الإسلامية، يكتبون باللغة العربية، لا باللغة العبرية".

الآن.. أصبحت اللغة العبرية في إسرائيل لغة العلم، والأدب والتاريخ، ونحن للأسف نهمل لغتنا العربية في الكثير من جامعاتنا وكلياتنا، ونجعلها حتى تنافسنا في الوظائف الوطنية في أحايين كثيرة! وهذا للأسف مجازفة كبيرة وخطيرة لهوية الأمة؛ ذلك أنَّ اللغة الإنجليزية ليست ضرورة في كل المهام في الوظائف حتى العلمية منها، حتى نجعل منها اللغة الأساسية في مدارسنا وكلياتنا، بل إنها قد تكون مطلوبة في بعض المهن الفنية، والفنية الدقيقة التي تستلزم نوعية من الأجهزة ذات الطابع التقني المتقدم، لكن وجود الأجنبي غير العربي يكون مؤقتاً، حتى يأتي من هو في خبرته بعد تأهيله؛ لذلك يجب أن نعزِّز اللغة الوطنية من خلال مناهجنا في التعليم العام، وفي الجامعات والكليات، ونجعلها أساسية في كل تعاملاتنا الإدارية والفنية، وهذا يتطلب أن نركز على التعريب بدلاً من اعتماد اللغات الأجنبية في أغلب جامعاتنا، فاشتراط اللغة الأجنبية يعني زيادة البُعد عن الهُوية، واللغة أساسها.