الوطنيّة ليست كلها حقوق وخدمات مجانية!

 

 

حمد العلوي

 

إنّ شبكة التواصل الاجتماعي، وبرغم سلبياتها، إلا أنّ لها إيجابيّات كثيرة، ومن هذه الإيجابيّات إنّك تستطيع أن تعرف اتّجاهات النّاس، وتقيّمهم بسلوكيّاتهم، ليس بالدقة العلمية المطلوبة طبعاً، ولكن بالفطنة ترى المؤشرات، ومدى تغيُّر الأمزجة والتأثيرات عليها، خاصة في جيل الشباب الأكثر تأثيراً على الوطن، لأنّه وبسبب نقص الخبرة، وضعف التحصين بالثقافة الوطنية، فهو بذلك أكثر عرضة للرياح الموجهة، وأن التأثر العاطفي الذي يتعرض له جيل الشباب اليوم، وربما البعض وليس الكل بطبيعة الشخصية، وقوة تكوينها أو ضعفها، فهذا التأثر الإيجابي أو السلبي، يكون متفاوتاً وفقاً لدرجة الاختلاف الفكري والمعرفي، ويتوقف أيضا على المساحة البيضاء أو الرمادية في نفس كل شاب على حدة، وهي المساحة التي تظل قابلة للاختراق، والتأثر من المتضادين، الإيجابي أو السلبي على حد سواء.

لقد كان الشعب الياباني ومازال، الأكثر تحصنا من التأثيرات السلبية الخارجية، فلو لا الاستهداف الأمريكي بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، لظلّ أكثر نقاوة وتميّزا عن أغلب شعوب الأرض، ولكن أمعن الأمريكي بحكم وصايته على اليابان، وذلك في بث الثقافة الأمريكية بين أفراد الشباب الياباني، وقد أستخدم كافة السبل الترغيب بكل ما تهوى النفس، ونجح مع البعض، ولكن ظل التأثير بطيئاً مع الغالبية، وذلك رغم الهجمة الشرسة التي قادها ضد القيم والعادات اليابانية، والفضل في ذلك تعود للتنشئة الوطنية التي ظلت قوية إلى اليوم، وقد ظلت الشباك الأمريكية والغربية على العموم، مفرودة لتلقف السواقط من الأمّة اليابانية، فلم تقتنص تلك الشباك الخبيثة العدد المؤثر في القيم اليابانية العريقة.

إننا في عُمان جرّبنا التمسك بالعادات والتقاليد الحميدة، وكان هذا التمسك سر السعادة في الشكر والرضا بما قسم الله للإنسان، وكان العُماني ينظر إلى نفسه من خلال الجماعة، فهو واثق كل الثقة إنّه محمي بالجمع، لذلك لم ينظر إلى المال على إنه يمثل قيمته ومقداره، فعلى سبيل المثال، إذا ما أراد ينجز عملاً شخصياً، فإنّه لا يحتاج إلى المال بقدر حاجته لمجتمعه وجيرته، وهو يعلم أنّه كما كان يَدين يُدان، وما كان يلزم نفسه بحمل المال في جيبه، وذلك اعتماداً على الثقة والأمانة بين الناس، لذلك ظلّ يقدس هذه المنظومة الاجتماعية الرصينة، حتى وجد نفسه مع الانفتاح يصارع معمعة غريبة عليه، فدخل في حيرة مع نفسه، وذلك بين القبول بالانفتاح والتصدي للرياح الخارجية، فيظل منكفئا على نفسه، فقرر خوض التجربة مع وجود مخاطر أكبر.

فبعد الانفتاح عند بدء عصر النهضة العُمانية، وفدت إلى عُمان بعض الأجناس من مختلف شعوب الأرض، وفرضت بعض الثقافات الوافدة نفسها، وسمع الناس عن قصص الثراء السريع، فتأثر البعض بفكرة الثروة والمال، ونأى بهم الطمع بعيداً عن القيم والأعراف، فاضطرب سلوك الناس، وقلّ التركيز على القيم والعادات، وتنكّر  البعض للتقاليد القيمة، وأخذوا ينظرون إلى الماديات، ويهملون القيم والعادات، فدخلوا في مرحلة أشبه باللاوعي، فغفلوا عن أشياء كثيرة ما كان الواجب أن يُغفل عنها، ومن أهمها على الإطلاق، التربية الوطنية للنشء، وتقوية الوازع الديني، فانشغل البيت عن تربية الأبناء، واهتم بأخذ نصيبه من المستحدثات على الحياة، ولم ينتبه أنّه قد فرّط في الأصل وهم الأبناء، فأوكلوا مهمة التربية الأولى إلى الغرباء، واعتمدوا في الباقي على التربية والتعليم في المدرسة، جازمين أنّها ستقوم بمهمتهم ومهمتها أي بالإثنين معاً، ولم ينتبه أحد إنّ البناء لا يقوم بالاتكاليّة، وإنّ أطوار الحياة لا تقبل القفز فوق مراحلها، لأنّها دون الالتزام بالتسلسل المنطقي، فحتماً سيحدث الخلل في تدرج مراحل التربية.

إذن هناك فجوة يعيشها جيل الشباب اليوم، وكما قلنا إنّ المساحة البيضاء، أو حتى الرمادية، ظل لهما حيز كبير في النفس، وهي عرضة لخطر فيروسات طاعونية من الضلالة والضرر، وهذا مما نستقيه من معلومات هم يعبرون عنها بأنفسهم، ذلك بفضل وجود مساحة جيّدة من حرية التعبير، وقد تكون الإيجابيّة في الفضفضة عن النفس، أنّها تعطي إنذاراً مبكراً للجهات المعنية في سرعة وضع الحلول للمعالجة، على عكس حالات الكبت والمنع التي قد تنتج انفجاراً مباغتاً، وهنا يكون بمقدور المرء أن يقيّم من خلال بعض التصرفات والسلوكيات، مدى وطنية هذا الإنسان من الغيرة، أو أللا مبالاة بالأمور، وهذا التقييم ممكن أن تستنتج منه أمور شتىّ، مثل الحرص على ساعات العمل، وعلى قيم الإنتاج، والتفاني في الأداء، وتقديم الخدمات بإخلاص، ومدى غيرته على ممتلكات الدولة، وأن يُبعد نفسه عن المقارنات السلبية، وفي المجمل أن يرى في الوطن مُلكه بالشراكة مع إخوانه من أبناء جلدته.

 

 

 

 

 

إذن، الوطنية واجبات، والحقوق ثمارها، وإذا أحدنا أراد أن يُشقي نفسه بالمقارنات مع الخارج، فعليه أن ينظر إلى أبعد من مدّ النظر، أو الركون إلى شاشة التلفاز والهاتف، لأنّ معظم الكذب والتضليل يأتي اليوم عبر الشاشات، فكم رأينا من محاسن بلا عيوب من خلالها، وكم رأينا من مآس وحروب هي تصورها، فقد نقلت كاميرات تصوير أخرى للمشهد العام مع المتفرجين من بعد مختلف، فكان النقل مخالفًا للمطلوب، إذن، فهناك محطات دول تتكلم عن رفاهية شعوبها بإغداق، والحقيقة أنّ أكثر من نصف شعبها يعيشون تحت خط الفقر، فما علينا إلا أن نكون واقعيين في كلامنا عن الحقائق، فقد سرتُ ذات مرة بين مدينتين - كلكم تحلمون بزيارتهما - وكان الوقت ليلا، وكان الطريق يفتقر لكل شيء يعني سلامة العابرين، حتى إنارة الطريق، فانظر وقارن مع شوارع السلطنة رغم ضعف الدخل، ورغم أنّ جزءاً كبيراً من الدخل، يذهب في البنية الأساسية للدولة، فلن تجد طريقاً بلا إنارة، إلا فيما ندر.. شكراً لله على هذه النعمة.

إنّ شكر النعمة أمر رباني، وهو من صميم أخلاق الإنسان، وإنّ من الوفاء للوطن أن تساعد في التعمير والبناء، لا أن تكون عنصر تخريب، ومعول هدم وسبب شقاء للوطن، فانظر حولك لتنظر عظمة التاريخ العُماني، وتخيّل كيف تحققت هذه العظمة، هل بالتمني والأحلام؟ طبعاً لا بل بالبذل والعطاء، وما تحصل على ريعه اليوم، فهو نصيبك أنت، وما تأخر فإنّه للأحفاد والأبناء، ثم أنظر إلى شخصك بنظرة المتجرد، واسأل نفسك ماذا قدمت من خير يُسهم في رفع شأن عُمان؟! أم أكتفيت بأن تضع نفسك مع المتذمرين، والمتلكئين على الدوام، فإذا سألت أحدهم عن أمر من الأمور، ردّ عليك فوراً، وهل أنا أفضل من فلان؟! نعم يجب أن تكون أفضل من فلان، بل وعليك أن تؤثر عليه أيضاً، ذلك بما تقدم من عمل جليل، لكي ترتقي به إلى الأفضل، وتجعل من نفسك شيئاً مذكورا، فالإنسان لا يحب أن يكون نسياً منسياً، إلا إذا كان شيئاً مذموما.

Safeway.om@gmail.com