السيمفونية التاسعة لبيتهوفن.. رحلة روحيّة على أجنحة الفرح والنصر والسمو النفسي

 

 

د. ناصر الطائي

 

لطالما عجز عقلي عن فهم كيف ولماذا يستطيع رجل أصمّ منعزل مثل بيتهوفن أن يؤلف نشيدًا يحتفي بالسعادة والنصر والمسالمة والأخوة كما فعل في "أنشودة الفرح". لقد تدفق اللحن الشعبي سيلًا فياضًا في الحركة الأخيرة من سيمفونيته التاسعة (1824) التي تُعرف أيضًا باسم "السيمفونية الكورالية" ليتوّج ذروة إنتاجه السيمفوني ويحطّم جميع المفاهيم السابقة عن القوالب والقوى الموسيقية المستخدمة في السيمفونية وبنيتها الشكلية. فلقد ارتأى بيتهوفن مع إدخال المغنيّن المنفردين والكورال، المزج بين الصوت البشري وصوت الآلات الموسيقية للارتقاء بموسيقاه لأعلى مراتب السمو الروحي والتقرّب من الخالق جلّ وعلا، وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ السيمفونيات. ولقد ساهم هذا المزج مقرونًا بالمقاطع السردية في جعل السيمفونية التاسعة تتربع على قمة سيمفونيات بيتهوفن جمعاء لتصبح أعظم قطعة موسيقية كُتبت على الإطلاق.

 

وبدأ انشغال بيتهوفن بكتابة قالب جديد واستمر مع "فنتازيا الكورال"، المصنف رقم 80، الضخم الذي ألّفه في عام 1808 واستخدم فيه بشكل تجريبي بحت مزيجًا من قوالب السوناتا والكونشرتو والقداس الديني والقالب السيمفوني حتى تمخّض عنه تلك المقطوعة الحالمة التي أصبحت بعد 16 عامًا لحن "أنشودة الفرح" الخالد بكل ما يتحلى به من بساطة وجمال. بعد السيمفونية التاسعة لم تبق السيمفونية على ما كانت عليه؛ إذ لم تعد مقصورة على "النَقي" والتجريدي، كما لم تعد مجرد توظيف موضوعي لقالب السوناتا أو بمعزل عن المحن الشخصية.

لقد ضمّن بيتهوفن في سيمفونيته التاسعة مقاطع سردية تروي انتصاره على الصمم في مزج بارع ومهيب بين صوت الآلات وصوت المغنيّن المنفردين والكورال. ومن خلال محاولته التقرّب من قيم الإنسانية والرحمة والتآخي التي روّج لها عصر التنوير، نجح بيتهوفن الأصمّ في قهر عجزه والتحرر من أغلال مرضه والسمو بروحه إلى مراتب سماوية جديدة. وبذلك استعادت السيمفونية أمجادها وعادت من جديد لتتخطى الحواجز الدنيوية المقتصرة على الأنغام المتآلفة مبحرة إلى آفاق غير مسبوقة من العظمة والرفعة لتتحول إلى منتدى فلسفي وفكري تُطرح فيه شتى القضايا المتعلقة بالوجود والعذاب واللوعة والانتشاء والتقرّب من الذات الإلهية.

في خضم هذه المرحلة "الملحمية" من مشواره الفني، عرض بيتهوفن أكثر أعماله طموحًا للمرة الأولى في عام 1808 على خشبة مسرح "آن در وين" في فيينا. ولقد شهد الحفل التاريخي أداء أعمال جديدة ضخمة ومنها تقديم كونشرتو البيانو رقم 4 والسيمفونيتين الخامسة والسادسة للمرة الأولى إلى جانب مقتطفات من قداسه الشهير في سلم دو الصغير و"فنتازيا الكورال"، المصنف رقم 80، ومقاطع ارتجالية على البيانو قدّمها بنفسه. ولقد شكّل هذا الحفل إعلانًا حقيقيًا وتأكيدًا فعليًا للمنحى الذي اتخذته الموسيقى الآلاتية الألمانية في القرن التاسع عشر فهي ذاتية وتصويرية وتتحلى بالوقار والعظمة. ويُقال أن الكونشرتو الرابع تضمّن إشارات إلى أورفيوس في حركته الثانية وأن السيمفونية الخامسة مرتبطة بـ "القدر" والسادسة صنّفت على أنها "رعوية"، وكلاهما يرمز إلى لحظات نصر وأعمال بطولية ومقاطع موسيقية تمس الحياة الشخصية ما أثّر في النهاية على الطريقة التي اعتمدها الجيل التالي من المؤلفين الموسيقيين في الكتابة للأوركسترا. وهكذا كُتب للسيمفونية التاسعة أن تواصل مشوار الانتصارات الملحمية لبيتهوفن مع نفحة من السمو والروحانية أضفاها الموسيقار الكبير بأسلوبه الخاص المميّز.

لقد كانت السيمفونية التاسعة عملًا صعبًا بكل المقاييس بالنسبة للعصر الذي أُلفت فيه، فهي طويلة ومتطلّبة ومعقدة وتصويرية. ولم يكن إيجاد "معانٍ" مباشرة لها بالمهمّة السهلة على جمهور بيتهوفن الذي عُرف كأعظم موسيقار في عصره، فهي عمل قلب كل الموازين وتحدى الأعراف وفتح بابا أمام سيل من الإمكانيات والتفسيرات. لقد كانت السيمفونية التاسعة ولا تزال لغزًا، وتعبيرًا موسيقيًا مجازيًا، ومنتدى للجدالات الثقافية حول الحب والإنتصار والغموض. وفي عام 1841، وصفت إحدى المقالات المنشورة في الصحف الألمانية أداء السيمفونية بقيادة مندلسون بالكلمات التالية: "لقد اختُتم الحفل بالسيمفونية العظيمة المعزوفة في سلم ري الصغير، العمل الأروع والأكثر غموضًا والأكثر ذاتية لبيتهوفن كما اختُتم بها المشوار الفني لهذا الأستاذ العظيم الذي سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة التاريخ إلى الأبد. وفي الوقت نفسه أصبحت حجر الأساس لحقبة فنية استثنائية بحق أسسها هايدن وموتسارت وبيتهوفن بإبداعاتهم الموسيقية الخالدة".

 

تاريخ "أنشودة الفرح"

لقد كُتبت "أنشودة الفرح" لشيللر في عام 1785 في أوج عصر التنوير الألماني. وفي رؤيتها المثالية، نجحت في تجسيد قيم ومثل التقوى الروحية والغبطة والأخوة، ما جعلها تكتسب شعبية كبيرة بين أوساط الملحّنين الألمان في زمن قياسي فأكثر من أربعين عملًا معروفًا مستوحىً من هذه الأنشودة ومعظمها كُتب للمغنيّن المنفردين والبيانو كما خُصّص بعضها أيضًا للكورال.

وكانت ولادة اللحن الشعبي الذي تُختتم به السيمفونية التاسعة متعسرة للغاية. "فنتازيا الكورال" عمل للبيانو والأوركسترا والكورال مع مغنيّن منفردين. كما هي الحال في السيمفونية التاسعة، تشدو القوى الصوتية بثيمة تُعزف أولًا على الآلات وتشبه في أنغامها لحن السيمفونية التاسعة. لكن بعض النّاس يرى أنّ الثيمة تعود إلى سنوات مبكرة من مشوار بيتهوفن الموسيقي وتحديدًا العام 1795 عندما كتب أغنية ("الحب العائد") للمغنيّن المنفردين والكورال. ومرة أخرى في عام 1812، قاطع بيتهوفن عمله على السيمفونيتين السابعة والثامنة للعمل على مقطوعة "أيها الفرح، يا بريق الآلهة الجميل" التي كان من المفترض أن يخصصها لسيمفونية تُعزف في سلم ري الصغير. ولقد استمر في البحث عن بدائل لها إلى أن توصل إلى اكتشافه العظيم في عام 1824 في شكل سيمفونية آلاتية.

 

المدينة الفاضلة

الكثيرون يعتبرون السيمفونية التاسعة لبيتهوفن رحلة بحث عن المدينة الفاضلة. والعديد من الأعمال السابقة للمؤلف تجسّد بلا شكّ هذه الرحلة الخالدة التي يسبر فيها المرء أغوار وجدانه ويبحث فيها في كل ركن عن مثل هذا المكان الخيالي المثالي. فالسيمفونية السادسة على سبيل المثال تسعى لإيجادها في الطبيعة وفي التجمعات القروية بدرجة عالية من السمو والنقاء، في حين أنّ "فلوريستان" في أوبرا "فيدليو" يطمح إلى إيجاد بصيص ضوء واحد في غياهب سجن "بيدزارو" المحصّن المظلم. أمّا في السيمفونية التاسعة، فيشير نص شيللر حرفيًا وبوضوح وبما لا يدع مجالًا للبس إلى هذا الهدف في قوله: "سيصبح الجميع أخوة" ويعيشون في سلام ووئام مع "أب محبّ" في فردوس الآلهة.

وفي عصرنا الحالي أصبحت السيمفونية التاسعة ترمز إلى الوحدة البشرية. في عام 1988 على سبيل المثال، عزفتها الأوركسترا الفيلهارمونية العالمية في عدة مدن في العالم الغربي تحت شعار "الموسيقى والسلام". وفي عام 1989، في أعقاب سقوط جدار برلين، عزفت ألمانيا المتحدة "نشيد الحرية" في حفل خاص أحيته أوركسترا يقودها ليونارد برنشتاين ومؤلفة من موسيقيين من كلا جانبي الجدار بمناسبة عيد الميلاد المجيد على خشبة مسرح "شاوسبيلهاوس" في برلين وذلك للاحتفاء بتوحيد الألمانيتين. غير أن هذه الحركة كانت أيضًا مستوحاة من معتقد تاريخي أن شيللر أراد أن تكون "أنشودة الفرح" "أنشودة للحرية" لكنه غيّر الحرية إلى فرح لأغراض رقابية. وفي دورة الألعاب الأولمبية، أصبحت "أنشودة الفرح" ترمز إلى الوحدة الإنسانية والأخوة. إنها نشيدنا للتسامح والمحبة وانتصار قوى الخير على الشر والكراهية والظلام وتسبيح نترنّم به للتقرب من إلهنا العلي القدير.

بنية السيمفونية

تبدو السيمفونية التاسعة للوهلة الأولى تقليدية بفضل بنيتها القياسية المؤلفة من أربع حركات: قالب سوناتا افتتاحي في الحركة الأولى، يليه مقطع "سكيردزو" تقليدي، ثم تأتي الحركة البطيئة الغنائية قبل أن تختتم الحركة الرابعة السيمفونية، غير أن بيتهوفن أدخل عاملًا جديدًا على السيمفونية التاسعة يكمن في رسالتها الإنسانية وقدرتها على تجاوز عالم النوتات المجرّدة إلى عالم أسمى تخاطب من خلاله النفس البشرية بلغة الروح، وفي أثناء ذلك، مثلها مثل السيمفونية الخامسة تمر بمراحل عدة وتتطور لتولد من رحم الفراغ والأفكار التجريدية منتقلة إلى عالم النقاء وصولًا إلى "أنشودة الفرح" الاحتفالية.

الحركة الأولى تتخذ قالب السوناتا وتحمل في أحشائها بذرة الكفاح والمعاناة وهي تعد إحدى أكثر افتتاحيات بيتهوفن تحليًا بطابع الحزم والدرامية، وتعزف الافتتاحية بطريقة "البيانيسيمو" أو بلحن ناعم جدًا على آلة وترية فترسم مناخ قوّة وصفاء بعد التأكيد على النوتة الرئيسية وهي "الري" التي تدفع الحركة بأكملها.

تستمر الدراما في مقطع التفاعل الذي تتعاظم قوته وهيمنته، متجاهلًا التكرار التقليدي لمقطع العرض، ويؤجج لهيب الدراما من خلال جمع الثيمات الواحدة تلو الأخرى بأسلوب "الفوغا". وهنا تكتسب المعاناة زخماً غير مسبوق مع تأخير المرجع وعدم الاستقرار الهارموني. وأخيرًا في المرجع، وبعد معاناة طويلة تعود ثيمة النصر من جديد في سلم ري الكبير لتحل محل الثيمة الافتتاحية للهزيمة في سلم ري الصغير. هذه هي طريقة بيتهوفن في رفع راية النصر باستخدام الأنغام التي اعتمدها أيضًا في سيمفونيته الخامسة.

وتأتي الكودة الختامية الطويلة لتعقّد من قالب السوناتا لكنها قد تُستخدم أيضًا كمقطع تفاعل ثانٍ، إذا تبدأ محادثة لحنية رائعة بين آلات النفخ والآلات الوترية قبل أن يُغرق صوت الأخيرة صوت آلات النفخ الخشبية مبحرًا تجاه خاتمة مؤكدة رافعًا بيارق النصر. وبهذا تكون الحركة الأولى قد مهدت الطريق للمعركة الكبرى ذات الأبعاد المأساوية مع بصيص أمل يبزغ من جوف الظلام.

الحركة الثانية هي مقطوعة "سكيردزو" شيطانية في سلم ري الصغير. مقدمتها ذات المسافات التنازلية بين النوتات تلمّح إلى ثيمة إفتتاحية الحركة الأولى وبالتالي تشكل حلقة الوصل بين الحركتين. الثيمة المتنافرة والمتكررة شديدة الاهتياج وشاذة. غير أنّ صوت التيمباني المنفرد مثير للاهتمام فلقد استُخدم لمقاطعة الإيقاع المفرط للـ "سكيردزو". توّلد الحركة جوًا شديد التوتر على عكس الثيمة المستمرة وهو تناقض حري به أن يُحسم.

الثلاثي التالي متباين مع سلم ري الكبير ومن ناحية الإيقاع (ميزان ثنائي مقابل الميزان الثلاثي للـ"سكيردزو") والأحاسيس. طابعه الرعوي ريفي وقروي مع وجود تلميح آخر للرسالة الروحية في الخاتمة. يفيض التكرار جمالًا وطربًا ما يولّد شعورًا بالنشوة وعواطف جياشة تأسر الألباب. استقرار اللحن يدعو إلى الراحة ويطمئن المستمعين بأن النصر آت لا محال والظلمة ستجد طريقها إلى الانقشاع.

الحركة الثالثة بطيئة وتعزف في سلّم سي المنخفض الكبير الملائم لها. والقالب المستخدم فيها هو التنويع تقاطعه أصوات البوق المتعالية. الثيمة المعارضة تعزف في سلم ري الكبير وهي غنائية، هادئة ورعوية. يفيض هدوؤها بروح الطبيعة ويلتمس السلوان في كنف الرومانسية الحالمة. من الناحية الشعرية، تُفسّر الحركة البطيئة على أنها أول خطوة في مشوار تعافي البطل. فالموت يليه الإنبعاث والظلمة يخلّفها النور والهزيمة تأتي بعد النصر! الحركة شديدة البساطة والهدوء والتباين مع الحركة السابقة لها. إيقاعها البطيئ وميزانها الثنائي وسلمها الكبير يعكسان بوضوح أوجه التباين الموسيقية غير أن جوهرها يكمن في طابعها الرعوي الملّطف للأجواء ببساطتها وبراءتها المبهجة. لقد أُقصينا تمامًا عن سوداوية سلم ري الصغير شادين الرحال إلى آفاق شاعرية سماؤها الطبيعة، محراب النقاء.

العتمة القاتمة

غير أن مع بيتهوفن لا شيء مؤكد فالعتمة تطل بوجهها القاتم لتخيّم على أجواء السيمفونية من جديد من خلال صوت الأبواق النحاسية التي تذكرنا بالحركة الأولى حيث تغرق الموسيقى هاوية من سلم فا الكبير إلى سلم ري المنخفض، في حركة تُهزمها أيضًا أجواء السلام الطاغية. غير أن تلك الهزيمة ليست إلا مؤقتة حيث ستعاود الآلات النحاسية بعث أجواء الرعب من جديد في محاولة أخيرة لها في الحركة الختامية.

وتعود مقطوعة "السكيردوز" كمرجع. إنها حركة مسعورة، شيطانية نهايتها قد تتسم بأي شيء غير كونها تهكمية. وها هو شبح الحركة الأولى السوداوية يظهر من جديد آبيًا أن يستسلم. فكيف سيواصل بيتهوفن سيمفونيته والحال كذلك؟

تبدأ الحركة الختامية بدون توقف مواصلة الحركة الثالثة وتخيم أجواء الرعب التي تبعثها أصوات البوق. تقضي على روح السكينة والهدوء التي ساهمت فيه الحركة الثالثة مصممة على المزاج القاتم للحركة الأولى. وتعكس الأنغام غير المتآلفة معاني اليأس وتتسبب أجواء الرعب الموحشة في إحداث نوع من الفوضى. هل سينتصر الشر؟ أو أن الدورة "الملحمية" الموثقة في السيمفونيتين الثالثة والخامسة لبيتهوفن ستواصل مسيرتها؟ وإن فعلت، كيف ستشق طريقها الفريد نحو النصر؟

وبحركة عبقرية، يُدخل بيتهوفن لفترة وجيزة ثيمات الحركات السابقة التي تقاطع أصوات البوق كل منها. النمط الإلقائي يضفي نفحة من ثيمة "الفرح" في شكل محادثة موسيقية تستبعدها تدخلات الأوركسترا العالية المفاجئة. إنها إشارة موسيقية واضحة إلى أن الوقت قد حان لبداية جديدة، بداية خارجة عن المألوف.

ونبدأ بقالب ملحمي مهيب يضاهي السيمفونية عظمة وفخامة يتمحور هو الآخر حول أربع حركات "داخلية"، وكأنها سيمفونية داخل سيمفونية، موزعة كالتالي:

  • "الحركة" الأولى: الثيمة والتنويعات مع مقدمة بطيئة.
  • "الحركة" الثانية مقطع "سكيردزو" بطابع عسكري يبدأ بـ "المارش التركي"
  • "الحركة" الثالثة تشبه المقطع الغنائي والتأملي البطيء مع ثيمة جديدة حول النص الديني "أيها الملايين أعانقكم"!
  • الحركة "الرابعة" تقدم بأسلوب الفوغا المقدّس استنادًا إلى ثيمات من "الحركتين" الأولى والثالثة.

وحدة الثيمات

مثل أعماله التي ألفها في أواخر مشواره، تتسم الحركة بوحدة ثيماتها حيث يستند كل جزء إلى الثيمة الرئيسية ويتعلق بالسيمفونية كلها. يبدأ الصوت البشري، عقب المقدمة وبعد رفض الثيمات السابقة للحركات السابقة، في غناء نوتاته الموسيقية الأولى في تاريخ السيمفونيات. وبحركة عبقرية يوحّد بيتهوفن عالم السيمفونيات مع عالم الموشحات الدينية المقدس وعالم الأوبرا الدنيوي. الآن أصبحت كافة الأشكال الفنية موحدة تحت مظلة كبيرة واحدة هي السيمفونية التاسعة التي تشكل قمة إبداعاته السيمفونية على مدار مشواره الفني الفذّ. وبأسلوب إلقائي لامع، يطالب التينور بإدخال لحن جديد أكثر بهجة وغبطة من اللحن "التراجيدي" للحركات السابقة. وعن ذلك قال بيتهوفن:

 

آه يا أصدقاء، دعونا من هذه الأصوات!

حري بنا أن نستبدلها بأصوات أكثر متعة وبهجة!

 

بعد كل ما تقدّم، تأتي ثيمة "أنشودة الفرح" في سلم ري الكبير لتبرز وتتخذ موقعًا محوريًا. إنها لحن شعبي بسيط من سلم موسيقي واحد، مكوّن في المقام الأول من نوتات متتالية ومتقاربة. من الصعب بناء لحن أبسط أو أكثر اتزانًا من ذلك. التناظر بين مقطعي اللحن المؤلف كل منهما من 8 مازورات من السهل التنبؤ به كعرض ومرجع. كما أن مقطع التفاعل مقدم بلطف: في البداية بشكل ناعم على الأوتار الدنيا، ثم يتكرر اللحن في كل مرة بصوت أعلى لحين دخول كلمة "الله" بعظمة وفخامة.

الجزء الثاني معتدل البطء في سلم صول الكبير وهو يشكّل مقطعًا كبيرًا من الحركة. نصه الذي يبدأ بالكلمات "أيها الملايين أحتضنكم، وهذه القبلة لكم جميعًا" يتحلى بالقدسية والروحانية. معالجته كنسية مع ايحاءات مأخوذة من تقليد القداس الإلهي حيث تدخل الأصوات متتالية على النص نفسه. إنه مقطع يتحلى بالغموض والخشوع والكمال المطلق ينتهي بعبارة "فوق العرش مسكنه..." إنّها أقوى اعتراف بالإيمان تخلّل أعمال بيتهوفن حيث تتعاظم أصوات آلات النفخ لتعبر عن الحضور الإلهي فوق عرش ملكه.

الحركة التالية عالية السرعة في سلم ري الكبير وتستند إلى اللحن الأصلي الذي تسانده آلات الترامبت والترومبون ولحن "الفرح، بريق الآلهة الجميل". المقطع الأخير خاتمة تشدّد على ثيمة الألوهية والتصوّف والحب أشبه بالجندي المغوار العائد من ساحة المعركة يزف خبر انتصار الفرح إلى الإنسانية:

 

أيها الملايين أعانقكم!

هذه القبلة للعالم أجمع!

أخوتي، فوق عرش السماء يسكن أب محبّ. أتسجدون له أيها الملايين؟

أتشعر بخالقك أيها العالم؟

ابحثوا عنه فوق نجوم السماء!

لا بد أنه يسكن ما وراء أضوائها.

 

تعدّ رسالة الفرح بالنسبة لبيتهوفن ذات بعد شخصي وعالمي وتعبّر عن رغبته في إيصال فلسفته على الرغم من إصابته بالصمم ومرضه. مع أنه وحده في المنفى وفي معزل تام عن الدنيا، ينتصر على معاناته ويوجه رسالة إلى الإنسانية يطالبهم فيها بأن يتخلوا عن اختلافاتهم ويوحدوا صفوفهم كأخوة لاحتضان مصير أكثر إشراقًا. من هذا المنطلق، تلعب المعالجة السيمفونية لأنشودة الفرح دور التوحيد السامي فهي تلم شملنا وتحطم الحواجز التقليدية وتلهمنا في مسيرتنا نحو النور. "هناك، سنجده جالسًا على عرش السماء" في تلميح للمصير والتسامي. هناك تلتقي الروح خالقها وكلاهما يجتمعان مرة أخرى إلى الأبد.

 

المعضلة الوجودية الصوفية

لقد وجد بيتهوفن عزاءه في "أنشودة الفرح" لشيللر. فهي تقدّم حلًّا لا لمعاناته الشخصية فحسب بل أيضًا لتلك المعضلة الوجودية الصوفية الكامنة في الرحلة الروحية نحو الحب والفرح التي تسمو بالروح وتنقيها وتُطهرها لتستحق التقرّب من خالقها. لقد أصبح بإمكان الروح التائهة منذ الأزل أن تتحد الآن من جديد مع مبدعها في لحظة تجلي لا تنتسى. إنها مُثل التنوير في أبهى وأقوى صورها "الحياة، الحرية والبحث عن السعادة". إن العالم بالتأكيد أثمن بكثير من أن نضيعه في المآسي واليأس.

 

*****

تتربع السيمفونية التاسعة على عرش مؤلفات بيتهوفن السيمفونية بلا منازع. وهي لا تستحضر خلاصة إبداعاته على مدى مشواره الفني الطويل وتلخص حكاية كفاحه ومعاناته وانتصاره الملحمي فحسب بل أنها توثّق أيضًا تصالحه مع خالقه وتترجم جلّ معتقداته الفلسفية. إن السيمفونية التاسعة تمزج بين المقدّس والدنيوي، الرفيع والمتدني، والبشري والإلهي. وهكذا فإن العمل الذي استغرق عدة سنوات ليعاين النور بدءًا من مراحله الأولى المستوحاة من "أنشودة الفرح" وصولًا إلى الميلاد الأخير لما أصبح عملًا ضخمًا ذا أبعاد استثنائية حط رحاله ووجد محطته الأخيرة في خاتمة السيمفونية التاسعة. مثلها مثل سيمفونيتيه الثالثة والخامسة، تحمل السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في جنباتها مشوار ملحمته الإنسانية وهو يلد من جديد من رماد الهزيمة كطائر العنقاء الأسطوري متخبطًا بجدران مأساته ومعانته قبل أن يرفرف بأجنحته في سماء النصر. وعلى صعيد الموسيقى، يحقق بيتهوفن الجانب السردي من سيمفونيته من خلال إبحاره الرمزي في عباب افتتاحيته الغامضة قبل أن يرسو بألحانه على سلم ري الصغير ويهتدي إلى مرفأه الأخير في سلم ري الكبير.

لقد قيل عن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن أنها تنطوي على نزعة متطلعة إلى الوراء وتعدّ امتدادًا للمرحلة "الملحمية" للسيمفونيتين الثالثة والخامسة وكونشرتو البيانو "الإمبراطوري"، كما أنها تأكيد على إيمان المؤلف تمامًا كما هي الحال مع رحلته الروحية في أجواء "القداس الإلهي" (التي اكتملت في عام 1823 لكنها لم تعزف إلا في نفس العام الذي قدم فيه بيتهوفن سيمفونيته التاسعة). وعلى الرغم من وحدتها (استخدام ثيمة الافتتاحية كنواة تتولد عنها جميع الحركات الداخلية)، تستقر الحركة الأخيرة على المقطع السردي والسمو المجازي ضاربة عرض الحائط بالحركات السابقة ومؤكدة على "أنشودة الفرح". لهذا السبب بالذات أراد بيتهوفن للحن أن يكون أبسط وأكثر فرحًا وإشراقًا من الحركتين الأوليين القاتمتين. من الناحية الجوهرية، تتحقق الوحدة من خلال الثنائيات المتباينة ومن خلال التشديد على صور الجمال والسكينة في الحياة الريفية والرعوية مقابل ثيمات المعاناة والمأساة. وتدخل هذه القوي في صراع داخل بيتهوفن وخارجه وهو في وحدته محكوم عليه بالعيش في المنفى بسبب صممه ومرضه.

لقد خلقت سيمفونية بيتهوفن معضلة كبيرة أمام المؤلفين الموسيقيين من بعده. في حين أن شوبرت تساءل عما يمكن تأليفه بعد السيمفونية التاسعة، انقسم المؤلفون الموسيقيون إلى معسكرين: المؤيدون للموسيقى المطلقة (مندلسون، شوبرت، برامز) والداعون إلى الموسيقى التعبيرية واستخدام النصوص (برليوز، تشايكوفسكي وماهلر). أمّا السيمفونية التاسعة فكانت الفاصل الكبير بينهما باستقلاليتها وحداثتها وعظمتها وحريتها. فهي تسنّ قوانين خاصة بها وتبحر بحرية في عوالم المطلق. غير أنّ خاتمتها تعود بنا إلى الأرض مؤكدة على أنّ أعظم انتصار يكمن بباسطة في وجودنا. من خلال الحب والفرح، تؤكد السيمفونية التاسعة على وجودنا وتبرر سببه. ولأنّها تنطوي على مزج رائع بين الموسيقى والنص، استطاعت سيمفونية بيتهوفن التاسعة أن تحقق من جديد أهدافها الإنسانيّة النبيلة نحو السعادة في أعظم وأنقى صورة شعرية وموسيقية للسيمفونية.

 

الرحلة الكبرى

تعدّ السيمفونية التاسعة رحلة بيتهوفن الكبرى التي قطعها بفضل عزيمته منتفضاً من غياهب اليأس والهزيمة ليحقق النصر ومنبثقًا من العتمة إلى النور. بالنسبة لبيتهوفن كانت تلك هي الرسالة التي ولد لأجلها ونحتها بنوتات من ذهب في سيمفونيتيه الثالثة والخامسة وفي عمله الأوبرالي الوحيد، "فيديليو". وفي كل خطوة خطاها في رحلته هذه، كانت سيمفونياته بمثابة رسائل أخلاقيّة مقرونة بجوانب جمالية موسيقية. ومن خلال أبعادها الشعرية ما كان من الممكن لرسالة السيمفونية التاسعة أن تتسم بقدر أكبر من الوضوح وعلينا أن نتقبل هذه الحقيقة شئنا أم أبينا. إنّها انتصار بيتهوفن الأول والأخير على معاناته التي ظلت لسنوات هاجسًا يشغله منذ كتابة "وصية هايلينغستادت" في عام 1802. وكما كانت حكاية كفاحه، وجدت "أنشودة الفرح" طريقها إلى سيمفونيته، أكثر القوالب الموسيقية تجردًا، بعد سنوات من المعاناة والمحاولات والتجارب المحبطة. إن سلم ري الصغير، النوتة الموسيقية المستخدمة في أكثر أوبرا سوداوية لموتسارت، "دون جيوفاني"، وفي كونشرتو البيانو العاصف لبيتهوفن، المصنف 466، وفي قداسه الإلهي غير المكتمل يبعث من الموت للإعلان عن إنتصار العزيمة والإرادة الإنسانية.

إن "أنشودة الفرح" ليست مجرد نشيد للفرح لكنّها ترنيمة تدعو إلى تذوق الروحانية وتعبّد لا ينتهي في محراب الجمال. هذه هي الرسالة التي قصدها بيتهوفن وظلت وستظل كذلك إلى الأبد!

 

* مستشار مجلس إدارة دار الأوبرا السلطانية

تعليق عبر الفيس بوك