وجوه

عبدالله حميد مَرَّ من هنا

 

 

أحمد الهنائي

كان، ولا يزال، حارس البلدة الأمين -وإن تباينت حوله الأهواء، وتلقفته العيون بالريبة، ولازمه سوء الطالع فيما يحمله الآخرون من بروباجندا توهَّمتها العقول، وإنْ رماه الساخرون بـ"خفة العقل" لصنيعه الذي ستصوغه الكلمات اللاحقة- مَضْربًا لأروع مثل في الحب والصدق والوفاء والنبل الإنساني لمعشوقته التي يدافع عنها بضراوة، وينافح عن حبه بكل ما أوتي من جهدٍ ووقتٍ ومشاعر، إنها الأرض التي ظلَّت تسكن روحه وتملأ شعاف قلبه وتحيط به إحاطة السوار بالمعصم، كيف لا وهي محراب الجمال في صلوات الطبيعة، والوتر الخلَّاب الذي يرِّن في أذن الوجود بهاءً وجلالاً ونضارة؛ قريته الوادي الأعلى التي لم يحب شيئاً مثلها.

يفيق عبدالله حميد قبل أن ينبس الديك باكتشافه المبكر عن انكشاف ظلمة الليل بفجرٍ مبين، يحملُ معه دفقاً من حنين ومضاءٍ من عزمٍ وقّاد، ينضم إلى رفاقه من "عمال البلدية" في ممارسة مهامهم التي تنتهي بعد بضع ساعاتٍ قليلة، ليعود الرفاق إلى منازلهم، لكنه يبرهن دوما أن الوادي الأعلى بفجاجها وجبالها ووديانها ونجادها ووهادها "وعوابيها" كلها منزلٌ له ومسكنٌ يطيب له المقام فيه.

لا يتحرَّر عبدالله من عمله إلا في ساعاتٍ مُتأخرة من نهار، وربما امتد لساعات أُخَر بعد الأصيل، وهو يتخذ من كل شبرٍ في الأرض موقعا له، لا يغادره إلإ وقد حوّله إلى جنّةٍ خضراء، لا يترك أثراً لمخرجات الأرض من زوائد، أو بقايا راكمها الإنسان وأهملها الحيوان، يُرابط مُرابطة شديدة في كل مربعٍ يقرر دخوله، حتى يدرك من يراه لاحقا أنه مرَّ من هناك.

إنَّك لترى الأشجار في أبهى حللها، وقد تأنقت وتشذبت ومنحت العين دهشةً وحسناً؛ مما يجعل الشك يختمر بعقل الرائي في أن آلةً عظيمةً مرَّت عليها، أو كتائب من عاملين أفنوا وقتهم في تجميلها. وفي الحقيقة أنه "أمّةً" لوحده بما يصنع، فمن أعظم الإحسان أن يعتني الإنسان ببلدته وبيئته، وهو على هذه الحال أكثر من عشرين عاماً، لم يعرف الوهن طريقاً إليه، ولم تتمكن الحياة بكل مثالبها ومغرياتها وملهياتها أن تفصم عرى محبته واتصال قربه لأرضه، حتى غدا لا يعرف شيئاً سوى هذه العلاقة المقدسة بمن شغفته حبا، وإن هزء البعض به، لكن قلبه قد وجد ضالته، وما على العاشق من ملامة العاذل!

يرسل عبدالله حميد تحياته بلا وُد لكل العابثين بمقدرات الأرض، ولجميع من خانوا الأمانة وفرطوا في الضمير الوطني، واستغلوا مناصبهم ووظائفهم لمآرب شتى، واجتهدوا في الانتفاع خدمةً لذواتهم وقرابتهم وطغامة المتسلقين. كما أنه يدعونا جميعاً إلى الإخلاص في المحبة والعمل، والصدق في التعبير، والوفاء للوطن والأهل والمحيطين بنا.

مِمَّا يحُز في النفس، أن تُبنى معايير التكريم لدى كثيرٍ من المؤسسات على تقنيات غير دقيقة، وفي حينٍ على مظاهر خادعة، أو علاقاتٍ وأهواء، لكنني أقول إنْ أراد أحدنا اختيار شخصياتٍ مؤثرة جديرةً بالاحترام والتقدير، فإنَّ فتى الوادي الأعلى النبيل في مُقدمة المستحقين، وإن كانت ابتسامة الأرض أوْفَى تَكْرِيمٍ لقلبه، لكنه الأوْلَى بالامتنان من غيره، خصوصاً وأنه لا يأخذ فِلساً واحداً غير راتبه، إنما الشغف زاده ووقوده ودراهمه.

ستُشرق شمس الغد، وسيحملُ هذا الرجل معداته معه، لينطلق في حوارٍ دائمٍ مع الطبيعة، إنه يشعر بغير ما نشعر، ويجد في نفسه لذةً لا نعلم كنهها، وحلاوةً تسري بأوصاله لا نتذوق طعمها، إنه أحد المؤثرين الصامتين الذين مروا علينا، وتركوا أعمالهم ناطقة، فما أبلغ خطابك يا عبدالله.