من وحي الذاكرة (10)

 

 

علي بن سالم كفيتان

سافرت بي الذاكرة مرة أخرى إلى الزمن البعيد حيث مدرستنا الجديدة خارج المعسكر، وسط السهل المنبسط بالقرب من فرقة أبوبكر الصديق الشرقية "فرقة طيطام".. كان كل شيء جديدا، وكم كانت الصفوف جميلة كجمال براءتنا وعفويتنا نحن أبناء الريف. لا زلت أشم رائحة الدروج الخشبية التي تستوعب ثلاثة منّا، كما لا زلت أتذكّر النوافذ المحاطة بمربعات حديدية وخلفها المرج الأخضر والفضاء الفسيح، لا زال طبيخ الأستاذ منصور (مدير المدرسة) يلف أجواء الذاكرة فالمطبخ وسكن المعلمين بجانب الصفوف مباشرة، لا زالت شجرة الكليت (شجرة محلية معمرة) شاهدة على طابور الصباح، لا زال الخوف ينتابني من صرامة الأستاذ إبراهيم (فلسطيني الجنسية) الذي كان يسمع جدول الضرب في طابور الصباح وكل غلطة تدفع ثمنها عصا، وظلّ الأستاذ سالم السم هو ابن المنطقة الوحيد بين أعضاء هيئة التدريس وأحد مربي الأجيال المؤسسين للتعليم في ظفار منذ ذلك الزمن.

هناك في ذلك المكان الريفي القصي لم نكن نحلم سوى بالسلام، لأنّ الخوف قد أخذ فضاء شاسعًا من حياتنا وحياة أهلنا، لقد كان كل شيء مبهرا وجميلا، لأننا باختصار لم نكن نملك شيئا سوى عزّتنا وكرامتنا، كم كانت السبورة السوداء الداكنة جميلة، ونخالة الطباشير البيضاء والملوّنة المتكدسة أسفل السبورة كشاهد على عطاء الأستاذ فالطباشير كانت للكتابة وللعقاب فكم حذفنا بها الأستاذ كالصواريخ العابرة للقارات، وهناك منّا من أصبح كالقوارض يتلذذ بقضم الطباشير وإخفائها حتى أصبحت مادة نادرة، فأصبح الأساتذة يحتفظون بها في جيوبهم، لا زال الدكان الذي يبيع فيه الهندي (أرعلال) كما سموه "الشيوبة" هو مصدر التموين الوحيد للقرية، ويقع في طرف المدرسة حيث نتزاحم عليه وتصل القلوب الحناجر في الفسحة حتى تفوز ببيضة وقطعة جبن وكيس بطاطس وخبزة مع مشروب الـ"صن توب" اللذيذ، ومن ليس لديه نقود لا بد أن يكون عداءً ماهرا؛ فالمسافة التي تفصل المدرسة عن الفرقة حوالي مئتي متر، وكان هذا المارثون يحدث يوميًا للحصول على فطور مجاني من مطبخ المعسكر، فهناك إبريق شاي حليب كبير مخصص لهذا السباق اليومي، وحوله كومة من الخبز الشهي ومن سبق لبق كما أن عدد الأكواب محدود لذلك كان بعض المحترفين من الطلبة يعلقون أكوابهم على سارية العلم على علو شاهق، وعند حضوره يهرع إلى أعلى السارية لإنزال الكوب وبعد الانتهاء يرجعه لمكانه وبعضهم يخفون أكوابهم في جيوبهم، وآخرون تحت الأحجار.. كم كان ذلك مشوقا.     

في تلك الفترة تغيّرت الأمور جزئيًا ولم يكن متاحا لي المبيت في المعسكر بشكل مستمر فكنت أقضي الوقت متجولا بين أهلي الذين يرحبون بي دائمًا مع أبنائهم وخاصة القريبة بيوتهم من المدرسة، وأكثر مقامي كان عند أسرة الشيخ محاد بن دبلان –رحمه الله – فكان يعاملني أفضل من أولاده، ويرعاني بعينه التي لا تغفل عنّي، وعندما يذهب يستودعني زوجته الوفيّة –رحمها الله -وابنته الغالية الكريمة – حفظها الله – أم أحمد. هناك تعلمت الكثير من مدرسة الشاعر والأديب الكبير محاد بن دبلان؛ فكان أبو سالم يصدح بالأذان في كل الفروض من تحت شجرة الميطان (شجرة محليّة معمرة) المجاورة لبيته يسبح طويلا لا يتكلم كثيرا ولكنه إذا تكلم أبدع في كل المجالس فهو شاعر القبيلة، يسمعنا الشعر، ويشدو بـ"النانا" عندما يكون مستلقيا تحت ظل شجرته المفضلة واضعا رجلا على رجل كعادة الرجال في تلك الفترة، وكانت تأتيه النّاس زرافات للإصلاح بينهم وكم رأيته يتأبط خنجره ويأخذ بندقيته الباراشوت ويذهب مع أناس يقصدونه للصلح من مختلف القبائل نظرًا لمعرفته الواسعة وإدراكه الكبير بكل مجريات الأمور.

حسن هو أصغر أبناء الشيخ محاد وورث شاعريته، وكان يحظى بحب وحنان لا متناه، هو في سني تقريبا؛ لذلك بدأت بيننا صداقة متجذرة إلى اليوم، وأشاركه مغامراته الخطرة في جني العسل، وكنا نرعي الغنم معا، ونذهب للمدرسة كذلك كل صباح بعد أن ننعم بفطور خمس نجوم من تدبير الشيخ رحمه الله؛ عبارة عن العسل الطبيعي، والحليب الطازج، ومعجين اللحم الشهي، وكنّا نخوض المشاكسات والمماحكات مع الطلبة الآخرين معا، ولا يسلم كلينا من آثار تلك المعارك الطلابيّة وعلى أقل تقدير نصاب بخدوش وندوب جراء الأظافر الطويلة للطرف الآخر حيث كانت سلاحًا فتاكا لا نجيده نحن.

ستظل تلك الأيام رغم قساوتها هي من أجمل الذكريات في أعمارنا، وسنظل نحن الجيل المحظوظ بقدوم جلالة السلطان – حفظه الله وعافاه – حيث انتشلنا من أتون الجهل إلى ضياء المعرفة، وسنظل كذلك شهودا على الجهود الجبّارة لكل المخلصين، الذين كانوا حول جلالة السلطان في تلك الفترة المفصلية حيث كان العمل يجري على قدم وساق ولا هدف غير إسعاد الإنسان وبناء الوطن.

سنحمل الود لمن درّسنا، وحمل مشعل العلم إلى أصقاع ظفار القصيّة آنذاك – ولن ننسى من أسسوا الفرق الوطنيّة الباسلة، وضحوا بأرواحهم رخيصة لأجل عمان وطاعةً للسلطان، وسوف نستلهم كل حاضرنا من تلك التضحيات الجسيمة، واضعين أيدينا يدا بيد لحماية وطننا من الشرور والفتن.

استودعتكم الله.. وموعدنا يتجدد معكم بإذن الله..

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

 

alikafetan@gmail.com