التنويم الاجتماعي.. والتنويم المغناطيسي (2-2)

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

استكمالا لما بدأناه في الحلقة الأولى من هذا المقال، نواصل الحديث عن التنويم الاجتماعي. ونقول: إذا كان "التنويم المغناطيسي مفيد لمعالجة بعض أنواع "المرض النفسي" عن طريق تعريض المريض إلى إيحاءات متكررة، فإن "التنويم الاجتماعي" يمكن أن تزول آثاره أو تخف بزوال أسبابه ويتعرض حينئذ لإيحاءات مختلفة. وإذا كان أحد الأشخاص يصاب بصدمة تترك آثارا بليغة عليه يصاب بعد ذلك بما يسمى بـ "المرض النفسي" فإن الصدمات أيضا تؤدي أحيانا إلى زوال المرض. وبنفس القدر فإنّ "التنويم الاجتماعي" يزول تأثيره إذا ما أصاب مجتمعا ما إلى هزة عميقة توقظه من سباته العميق. وقبل تلك الإفاقة يلعب المفكرون والمثقفون دور الطبيب النفسي المعالج لتشخيص الداء وتوصيف العلاج. وإذا كان العلاج النفسي يتطلب أمرين مهمين وهما براعة الطبيب وخبراته ومساعدة المريض، فإن هناك أسبابا مهمة للإفاقة من "التنويم الاجتماعي" ومن ضمنها براعة المفكرين وأهل الرأي والهزات التي يتعرض لها المجتمع. عندئذ يتولد استعداد عند المجتمعات لتقبل الأفكار الجديدة. 

فلا بد للمفكرين من البحث عن قوى الوعي المتناثرة هنا وهناك لتعبئتها وحشدها تمهيدا لانطلاقتها. فبدون ذلك لن نتمكن من اكتشاف الذات تمهيدا لاكتشاف العالم ومعرفة القوى التي تتحكم فيه وأسباب ذلك. ولا يمكن أن يتم ذلك دون الانفتاح على العالم وما به من اتجاهات فكرية وإرهاصات علمية وقوى إبداعية. 

وسوف يكون مشروعا التساؤل ونحن نحاول البحث عن قوى الوعي في مجتمعاتنا عن الأسباب التي جعلت العالم المتقدم يصل خلال القرون الخمسة الماضية إلى ما وصل إليه والأسباب التي جعلت العرب في أسفل المنحدر بعد أن كانوا في يوم ما على قمة الجبل والبحث عن أسباب ذلك. 

من الأجوبة التي سوف نحصل عليها، أنّ ذلك الشيء العظيم الذي نسميه اليوم تراثا، كان عظيما لأنه كان شيئا جديدا في وقته، أنتجته قوى الوعي الموجودة ومتفاعلة مع غيرها عندما اتبعنا المنهج العلمي وطرق الاستقراء والتحليل. وعندما توقفنا ضاع منا كل شيء. وجاء الآخرون فبدأوا من النقطة التي توقفنا عندها ثم أضافوا. لقد وقفوا الوقفة العلمية التي تبتكر كل يوم حقيقة جديدة عن دنيانا، بينما توقف سلطان العقل والتفكير والخيال عندنا. بدأوا بالعمل الشاق بينما بدأنا مرحلة الاجترار. بدأوا في تأليف كتاب المستقبل وتنقيحه باستمرار بالمستجدات الجديدة بينما اكتفينا في قراءة صحف الأقدمين، لا لننقحها ولا لاكتشاف حقائق جديدة بل لمجرد حفظها وترديدها وتلقينها للآخرين. لقد بدأت أوروبا بخلق الفكر الجديد بينما توقفت لدينا القدرة على إيجاد فكر جديد. 

الأوروبيون استلموا الإنتاج وحسّنوه وطوروه ولَم ينكروا على غيرهم بل وبدأوا يتقدمون على غيرهم، فكانت سلسلة من الاكتشافات العلمية المتتالية التي لا تتوقف لحد الان. أما نحن فقد تجمّدنا ولَم نضف شيئا جديدا بل بدأنا نضيف إلى ذلك التراث الأتربة الكثيفة حتى اختفى بريقه.. لنقارن بين ما أنتجته أوروبا خلال القرون الماضية ولنقارنها مع ما أنتجناه. 

و"التنويم الاجتماعي" الذي طال مداه أوصلنا إلى سلسلة من الأمراض المستعصية، لعلّ أقربها هو ذلك الانفصام في الشخصية والازدواجية في السلوك. والنتيجة أننا ما زلنا نعيش في الأوهام. نعيش الماضي بأفكارنا وعقولنا ونعيش الحاضر بأجسادنا. نقول في السر ما لا نقوله في العلن وندعي عكس ما نضمر ونعمل عكس ما ننوي. نتشدق بالدِين ومعظم تصرفاتنا مخالفة لمبادئه. ننصح بالتقوى ونمارس النفاق، ندّعي الصدق ونمارس الكذب، نحثّ على العمل ونمارس الاتكالية، نناشد بالحوافز ونسد الطرق بالحواجز. نتفاخر بالعلم ونمارس الخرافة. نواجه مجتمعات علمية بأفكار قديمة. نريد مواجهة الحروب الحديثة بلغة الأسلحة القديمة. ننادي بالوحدة ونشجع الانقسام. ننظر إلى الحاضر والمستقبل من خلال منظار قديم يحجب عنا الحاضر والمستقبل إذ لا نرى الحاضر أو المستقبل إلا من خلال نسخة من أصل قديم.

ننسى بأن نهضة اليوم تتطلب مكاسب علمية لم نحرزها ولا نريد إحرازها ولا نريد الاعتراف بذلك. لا نتمكن الادعاء أننا نعيش عصر العلم. وهذه الحقيقة لم تتسرب إلى صميم وعينا وأجواء شعوبنا وتصرفاتها مشوبة بكثير من الأوهام التي تودي بِنَا إلى مظاهر فاضحة من الخداع والانخداع. لم يدخل إلى صميم وعينا لحد الآن أنّ العلم والتقدم ليسا مجرد استيراد كل وجوه التقنية والادعاء بعد ذلك أننا مجتمعات متقدمة. والتقدم ليس مجرد بناء جيوش واستيراد السلاح واستيراد المعامل الجاهزة مع أطقمها البشرية أو تشييد العمارات الشاهقة والشوارع الفسيحة بتصميم وتنفيذ أجنبي وتمويل من مصدر شاء القدر أن يخزنه في باطن أراضينا من بقايا الديناصورات والحيتان الضخمة. لا شك أن كل ذلك جيد ومهم ولكن ليس بمعزل عن العوامل الأخرى. فهل آن الأوان أن نستفيد من تلك العوامل؟