دول إقليمية حثت الخرطوم على تقديم تنازلات "كبيرة" لإرضاء "الشارع الغاضب"

السودان على وقع "صدمة سياسية" بعد نجاح "العصيان".. والاحتجاجات "الناعمة" تُحيي آمال المعارضة في التغيير

...
...

 

 

البشير: العصيان فشل بنسبة مليون في المئة.. والأسعار بالسودان أقل كثيراً من دول الجوار

معارض سوداني لـ"الرؤية": العصيان الرسالة الشعبية الأقوى إلى الحكومة منذ 27 عاما

نشطاء: العصيان تأكيد على سلمية المعارضة وانتفاء اتهامات النظام بـ"التخريب"

مراقبون: عودة المواطن إلى المشاركة السياسية الفاعلة تؤكد "نفاد الصبر الشعبي"

 

 

الرؤية- محمد علي العوض

 

رغم مراهنتها على عدم التفات الشعب لها إلا أنّ الخرطوم تفاجأت بالاستجابة غير المعهودة لدعوات العصيان المدني، الذي انتهى أمس، وكان ناشطون سودانيون قد عمموا رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"واتساب" و"تويتر"، تدعو لتنفيذ عصيان على مدى ثلاثة أيام بدأت الأحد الماضي، احتجاجًا على موجة الغلاء التي اجتاحت البلاد بسبب حزمة القرارات الحكومية الأخيرة، والتي رفعت من خلالها الدعم عن الدواء وزادت أسعار المحروقات.

ولم يتوقع إبراهيم محمود مساعد رئيس الجمهورية حين وصف منظمي العصيان بـ"دعاة التخريب" أن يحقق العصيان في يومه الأول نجاحًا ملحوظًا قُدّر بنسبة 63% إلا أنّ آخرين أشاروا إلى 70% على الأقل في العاصمة السودانية الخرطوم. كما أُسقِط في يد السلطات الأمنية والشرطية التي كانت تستعد بأقصى درجة لمواجهة أي مظاهرات.

 

تفاعل غير معهود

وعلى غير المعهود تفاعل السودانيون بشكل كبير مع الدعوة إلى العصيان المدني، خصوصاً الشباب، إذ تبادلوا الدعوة وتوقيتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليصبح كل بيت سوداني على علم بها بالنظر إلى انتشار الإنترنت الذي يستخدمه نحو 11 مليون شخص وفق إحصائية الهيئة القومية للاتصالات. حيث خفت الحركة في الشوارع، وخلى بعضها من المارة تمامًا، وأغلق عدد من المحال التجارية والصيدليات والمطاعم أبوابه، ومنحت مدارس وشركات خاصة الموظفين عطلة رسمية؛ بعضها تضامناً مع الدعوة إلى العصيان والأخرى خوفاً من أن تؤدي الخطوة إلى تظاهرات وعنف..

وبدأ السودان يومه الثاني في العصيان المدني بنجاح ملحوظ وسط حالة من الدعم الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وجهت الرسائل المختلفة إلى الشعب السوداني للإشادة بتحركهم السلمي ضد الحكومة عبر هاشتاج "العصيان المدني السوداني في يومه الثاني". وإن كان قد شهد زيادة في حركة بعض الشوارع الرئيسية والأسواق، في وقت خيّم الهدوء على ساحات المدارس والجامعات وبعض المؤسسات التي تشهد ارتباكًا في نسبة حضور الطلاب والموظفين.

ورسمياً، تواصل العمل في المرافق الحكومية، إذ ينتسب غالبية الموظفين إلى الحزب الحاكم، فيما يخشى البعض من أن تتم معاقبته، في وقت خف فيه وجود المواطنين في المرافق الرسمية، مثل السجل المدني والجوازات وخلافه.

وحملت تباشير يوم أمس الذي دشن النشطاء هاشتاج "#العصيان_المدنى_السودانى_فى_يومه_الثالث" مشاهد عدة أبرزها مصادرة صحف "التيار، الجريدة، الأيام، اليوم التالي" وتصدرت تهديدات قائد قوات الدعم السريع ضد دعاة العصيان وإعلان سياسات نقدية واقتصادية جديدة لإصلاح الاقتصاد السوداني بعد تعويم الجنيه وتحرير سعر صرف الدولار، وتصريحات عن بحث البشير تطوير استثمارات الإمارات بالسودان عناوين الصحف الأخرى. كما تداولت عناوين الصحف تصريحات من مسؤولين عن عدم رفع أسعار الدواء، وتصريحات خاصة لوزير الإعلام حول إيقاف قناة "أمدرمان".

وبحسب شهود ونشطاء فإنّ دائرة التضامن مع العصيان اتسعت بعد امتداد حملة الاعتقالات التي طالت عددا من أعضاء الأحزاب، إلى جانب القبض على عدد كبير من نشطاء وطلاب اليسار بجامعة الخرطوم.

 

البشير في الإمارات

وقال الرئيس السوداني، عمر البشير الذي يزور الإمارات حاليًا في حواره مع صحيفة "الخليج" الإماراتية إن بلاده في حاجة إلى برنامج إصلاح اقتصادي، وإنّ العصيان المدني الذي تم الترويج له مؤخراً كان فاشلاً بنسبة مليون في المئة. مضيفا أنّ ارتفاع الأسعار الأخير حدث نتيجة خطأ من جهات مختصة، وأن الأسعار في السودان مازالت أقل كثيراً مقارنة بدول الجوار. ولفت إلى أنّه على الرغم من أنّ السودان فقد 90% من عوائد العملة الأجنبية من النفط عقب انفصال الجنوب، فإّن معدل التضخم هبط إلى 13% بعد أن كان قد وصل تقريبا إلى 60%. ويبدو أن البشير سعى خلال زيارته إلى الإمارات إلى الحصول على مزيد من الدعم لاسيما وزيادة الاستثمارات الإماراتية، والتي تقدر في الوقت الحالي بحوالي 20 مليار دولار أمريكي.

وأورد موقع (الراكوبة) السوداني أن قيادة دولة الإمارات ناقشت مع البشير مجريات الأحداث في السودان، وأضافت أن مصادر قالت إنّ غرفة عمليات عالية المستوى تمّ تشكيلها من مسؤولين إماراتيين كبار قد تابعت عبر سفاراتها في الخرطوم، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وفيسبوك بشكل خاص والقنوات الفضائية. وقد وقفت غرفة العمليات الاماراتية على مدى نجاح العصيان المدني في السودان، وأكدت أنّ الشعب السوداني نجح لأول مرة منذ 27 عاما في أن يقول كلمته بشكل واضح، وقد تأكد لها بأنّ العصيان المدني كان كبيرا ومؤثرا.

وأشار "الراكوبة" إلى أنه وبعد انتهاء سباق الفورمولا (1) سباق أبوظبي للجائزة الكبرى- جرى اجتماع أزمة مع الرئيس عمر البشير، حيث أفادت المصادر أن قيادة دولة الإمارات قد طلبت من الرئيس البشير تقديم تنازلات كبيرة ترضي الشارع السوداني الغاضب، وتم نصحه بإيقاف الاستفزازات التي يتعرض لها المواطنين من قبل الكثير من المسؤولين بالحكومة. ونقل الموقع عن هذه المصادر قوله إن مسؤولا إماراتيا كبيرا قد نصح الرئيس عمر البشير بتسليم السلطة.

 

ضربة للحكومة

وأوضح المحلل السياسي محمد علي سعيد أن التزام المواطنين وعدم التظاهر فاجأ الأجهزة الأمنية التي كانت تستعد للمواجهة، مشيرا إلى ما حققه العصيان في يومه الأول من أهداف مهما كان مستوى التعاطي معه. مؤكدا أن محاولات وزارة الصحة تدارك الأمر بإعلانها إلغاء زيادة فاتورة الدواء لم تقنع المواطنين "لأن قرار الزيادة نفسه لم يأت من وزارة الصحة". واعتبر أن تحديد سقف زمني لنهاية العصيان المدني هو ما يجهض الفكرة، ويشكك في قدرة المعارضة على الفعل.

أمّا أستاذ العلوم السياسية عبد اللطيف محمد سعيد فقال إن دخول المواطنين في عصيان بغض النظر عن عددهم، يشكل مصدر قلق للحكومة التي لم تعتد على ذلك من قبل. ويرى أن محاولات وزارة الصحة تدارك الأمر لم تكن مجدية لوقف تجاوب المواطنين مع دعوات المعارضين والنشطاء. ورغم تقليل الحكومة السودانية من حجم تأثير العصيان المدني المُعلن، إلا أن قرارات وصفها المحتجّون بالخجولة بدأت تصدر للتخفيف من حدة التوتّر.

ويرى مراقبون أنّ أي نجاح يحققه العصيان، ولو بنسبة واحد في المائة، يمثل ضربة للحكومة، وأنه قد يقود إلى تحركات أكبر، وأنه قد يضغط على الحكومة لإيجاد مخارج تضمن تمسكها بالسلطة. وقد يسرع العصيان من خطوات الحوار مع القوى الرافضة للحوار الوطني، خصوصاً الحركات المسلحة في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، من أجل إحداث اختراق في هذا الملف يخفف من غضب الشارع ويقلل من حجم الضغوط الدولية والإقليمية، التي أثرت على اقتصاد الدولة. وأضافوا أنّ العصيان المدني حقق أهدافه المنشودة وأنّه كلّف الدولة نفسيا وسياسيا واقتصاديًا، وأنّ السريّة حول من يقف وراء الدعوة إلى العصيان نتاج طبيعي لتجنب القمع، الذي حدث في تظاهرات سبتمبر 2013، ضد زيادة أسعار المحروقات والتي أدت إلى مقتل وإصابة أكثر من 200 شخص. وأشاروا إلى أن الشباب نجحوا في استخدام الثورة الإلكترونية للضغط على الحكومة، بالنظر إلى تراجعها عن تسعيرة الدواء التي أقرتها أخيراً، وأدّت إلى رفع الأسعار بما بين 100 و300 في المائة. وكانت قد أنشئت أكثر من 7 صفحات متخصصة على مواقع التواصل الاجتماعي للدعوة للعصيان المدني، لكن أكثرها مشاركة صفحة "العصيان#السودان_عصيان_مدني_27 نوفمبر"، حيث بلغ عدد المشاركين فيها حتى السبت الماضي 132130 مشاركا.

وكتب الكاتب الصحي الطاهر ساتي في زاويته الراتبة بجريدة "التيار" التي صودرت أمس بجانب صحيفة الجريدة والأيام أنّ الحدث كان تمريناً ناجحاً لمباراة قادمة في المستقبل القريب (جدا)، وأي تحليل للحدث غير هذا يُعد جهلاً بالوقائع أو دفناً للحقائق في رمال الزيف أو المُكابرة.

وتحت عنوان "التمرين الأول" كتب الصحفي السوداني فيصل محمد صالح أنّ العصيان كان ناجحًا جدًا، وأنّه تمرين يمكن أن يقود إلى خطوات تصعيدية، وهو رسالة واضحة عن الحاجة إلى تغيير جذري وهيكلي يعيد البلاد على موقعها الصحيح.

وفي تصريح خاص لـ"الرؤية" من باريس قال الكاتب الصحفي والناشط السياسي محمد الأسباط إنّ العصيان المدني شكّل منصة لإطلاق عدة رسائل في اتجاهات مختلفة، وقد كان نجاحه اللافت كرافعة احتجاج شعبي، أطلق رسالة قوية إلى الحكومة بأنّ الشعب قادر على التنظيم والحشد والفاعلية في وقت فوت الفرصة على بروبوغاندا الدعاية الحكومية التي تصف كل فعل معارض بأنّه عمل للتخريب، كما أطلق العصيان المدني رسالة إلى قوى المعارضة، هي الأقوى منذ 27 عاما، موجزها أنّ الشعب قادر على تجاوز سائر القوى السياسية في الساحة، والأهم أنّ العصيان المدني صوب رسالة إقليمية ودولية بأن السودانيين قادرون على تصعيد مقاومتهم للنظام الشمولي بسلاح مدني فاعل.

المعارضة.. آخر الواصلين

وترددت القوى المعارضة المسلحة والسلمية في تأييد العصيان، خصوصاً وأنّها ليست من الداعين له، وعمدت إلى تأييد الخطوة قبل 24 ساعة من انطلاقتها. وبدا الحزب الشيوعي المتهم الرئيسي لدى الحكومة بالتخطيط له الأكثر تردداً، فبعد أن أصدر بياناً أيد الاعتصام ألحقه سكرتير الحزب مختار الخطيب بتصريحات تنفي هذا الأمر؛ الأمر الذي أربك الحكومة نفسها، ورأت بعض القوى المعارضة أنّ الخطوة تحتاج إلى تخطيط وتوحيد، فضلاً عن ضرورة تحديد قائد، لكنها في النهاية سلمت جدلاً بتأييده ومراقبة ما سيؤول إليه.

أما الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل فقد قرر انضمامه لحملة العصيان المدني قبل يوم واحد فقط من انطلاق العصيان. وأشار المكتب السياسي للحزب للالتزام بالقرار. وأضاف في بيان له "إنّ الاعتصام فاتحة لبداية المقاومة وليس آخرها ولذلك علينا تنظيم أنفسنا في القطاعات كافة من أجل احداث شلل تام في كافة مرافق البلاد حتى يعود لنا وطننا الحبيب ويذهب الجلاد للمحكمة".

وكان تحالف قوى الاجماع المعارض أصدر بيانا الجمعة الماضية قبل الاعتصام دعا فيه جموع السودانيين وقواهم الديمقراطية المتحفزة لأسقاط النظام للالتفاف حول شعار برامج قوى الاجماع الوطني الرامية لإسقاط النظام.

حزب المؤتمر السوداني الأشد ضراوة في مناوأة السلطة الحاكمة قال إنّ الدعوات التي أطلقها ناشطون ومواطنون للعصيان المدني "تتناغم مع دعوة الحزب وعمله من أجل إسقاط النظام وتتفق معه تمام الاتفاق". وتابع "إن العصيان المدني سلوك نضالي رفيع لشعب عركته التجارب ومنحته ثورات أكتوبر وأبريل خبرات في مقاومة الأنظمة وشعب يستند على تراكم أكثر من ربع قرن من مقاومة النظام".

ودعت حركة/ جيش تحرير السودان قيادة مناوي الشعب السوداني للاصطفاف من أجل اقتلاع نظام الانقاذ، لأنه فقد مبررات بقائه. كما أعلنت الجبهة الثورية السودانية دعمها اللامحدود للصعود الجماهيري الرافض لسياسات النظام وقراراته الاقتصادية الأخيرة التي هدفت الي تحميل المواطن أعباء إضافية بتحرير سعر العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني والتي أدت إلى زيادة في أسعار المحروقات وكل السلع الضرورية من الغذاء والدواء.

حركة الإصلاح الآن على لسان الناطق باسمها، د. أسامة توفيق رأت أنّ الاعتصام نُفِّذ بشكل يؤكد نجاح الفكرة، وقال توفيق إن مجرد تسخير الآلة الإعلامية للحكومة لمحاولة إثبات أن العصيان قد فشل هو قمة النجاح.

 

الحكومة تقلل وتحذر

في المقابل قللت الحكومة من أهمية العصيان المدني، وعمد أتباعها إلى بث صور على مواقع التواصل الاجتماعي لتجمعات جماهيرية للتأكيد على تواصل الحياة في شكلها العادي، لكنّها برغم ذلك رفعت درجة استعداد قواتها النظامية، التي جابت الشوارع الرئيسية والأحياء، في خطوة استباقية لمواجهة إمكانية تطور العصيان إلى تظاهرات. وبثت قنوات التلفزة الحكومية نشرات إخبارية تحذّر من حالة الفوضى التي يمكن أن تدخل فيها البلاد جراء مواجهة النظام، مقدمة مثالاً سوريا وليبيا. وبدا حزب المؤتمر الوطني الحاكم واثقاً من عدم استجابة الشعب لدعوى العصيان، التي اتهم الحزب الشيوعي وحزب البعث بالوقوف خلفها، ورأى ّأنها مجرد حرب إلكترونية ضد النظام. وقال مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود، إن الشعب السوداني أوعى من أن يستجيب لدعوات على "واتساب" تنطلق من قبل من لا يريدون استقرار البلد.

وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة أحمد بلال قال إن الاعتصام المعلن من قبل المعارضة وناشطين عبر مواقع التواصل الاجتماعي فشل تماما، وأنّ مصالح الناس في الشارع لم تتعطل وأنّ الحياة تمضي بصورة عادية وأن الناس تبيع وتشتري في الأسواق والمحلات التجارية، وأقر بلال بغياب بعض تلاميذ المدارس نتيجة للإشاعات بأن هناك تخريبا سيقع، وأضاف :"لكن على مستوى دواوين الحكومة لم يتغيب شخص واحد عن عمله والأداء كما هو"، ووافقه القول القيادي بالحزب الحاكم الفاضل حاج سليمان بأنّ الأمر لا يعدو كونه تضخيمات تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي". كما قلل وزير الصحة بحر إدريس أبو قردة من دعوات العصيان المدني، متوقعا لها الفشل باعتبار أنّ السودانيين متفهمون للقرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة أخيرًا.

كما اعتقل جهاز الأمن اثنين من قيادة حزب المؤتمر السوداني المعارض، بينما دخلت مجموعة من الناشطات بقيادة الأميرة سارة نقد الله، الأمين العام لحزب الأمة في إضراب مفتوح عن الطعام تواصل على مدى ثلاثة أيام بدءًا بيوم الأحد 27 وانتهاء بيوم أمس مطالبات بإسقاط النظام.

تعليق عبر الفيس بوك