في ثرى جوهرة مسقط (1)

 

راشد البلوشي

عندما تشرفت بتغطية الرحلة التاريخية لجوهرة مسقط منذ بداية انطلاقتها من مسقط إلى سنغافورا، شكلت رحلتها في ذاكرتي خارطة تاريخية، حينها أكتب كل صغيرة وكبيرة عن أحداث سير السفينة، عبر متابعتي لها على نفقتي الخاصة متنقلا بين الموانئ التي ترسو فيها وعبر تواصلي مع قبطانها وبحارتها حين يغادرون الموانئ، وبعد عودة فرسانها إلى أرض الوطن دار حديث مطول مع أحد البحارة سيرد حديثه في كتاباتي القادمة.

الآن أكتب تلك الذكريات على لسان حال السفينة فإلى بداية الحكاية.."أنا أحد حكايات الزمان.. أصلي من عمان".

لنعد بذاكرتنا إلى الوراء لنسري بالخيال حتى عام تسعمائة الميلادي، لنقتفي أثر سفينة عربية قابعة في أعماق البحر على جزيرة بليتانج الإندونيسية، منذ أكثر من ألف ومائتي عام لم تر النور، تلعق مرارة الاغتراب، تذرف دموع الكمد والفراق دون أن تمتد لها يد حانية لانتشالها من لجج البحار، ظلت طيلة تلك المدة مترامية بين الشعب المرجانية، تداعبها التيارات المائية، تقلبها إلى اليمين تارة وإلى الشمال تارة أخرى، وحينا آخر تثبتها على قاعدتها.. ترمق زرقة السماء الناصعة بفضائها الواسع لينتفي عليها البحر، استمرت في عالم النسيان، بعيدة عن أهلها!! تتساءل أين من كان على ظهري يحميني من تلاطم أمواج البحر العاتية، يزيح من على كاهلي "بقايا" الشعب المرجانية، فكم تألمت منها كثيرا، كدت أختنق من وجودي كيتيمة جار عليها الدهر وتقطعت بها السبل، فأخذت أتقدم في السن، تعتريني ملامح الشيخوخة التي باتت ظاهرة للعيان، وتقطعت الحبال التي كانت تلف أجزائي، فأخذت تنفصل عن بعضها رويدا رويدا.

أسمع أصداء الفضاء الخارجي من البحر، أشاهد بعيني سفنا لا تشبهني، تزعجني بأصوات تصدر من قاعدتها، أرى في مؤخرة تلك السفن مراوح لم أرها في أجزائي.

ودارت الأيام.. وانطوت السنين تثري ولا ِزلت أنتظر بصمت مرير، تدحرجني التيارات المائية، ولا تقوى نفسي على التصدي لها، أثقلتني أمتعة البحارة الذين كانوا على ظهري، أجزائي تتحطم شيئا فشيئا، أشلائي تنهشها الصخور حين تدحرجني المياه.

أريد أن أصرخ، أبوح ما بداخلي، أبث لواعجي، لا أجد من يؤنسني، غريبة في عالم تحيطه الأخطار، وهكذا دارت عجلة الزمان وأنا مكبلة في أعماق البحار، تشبعت من البحر، تأقلمت بعض أجزائي، تصالحت مع الطبيعة البحرية، ألفت المكان، نسيت كل شيء، أصبح للمستقبل وميض ضيق.

ودارت الأيام وإذا بي أجد نفسي على شاطئ قبالة جزيرة بليتانج، نظرت إلى السماء، تنفست الصعداء، أخذت أحدق في أحد الصيادين وهو يصطاد السمك، نظر إليّ نظرة استغراب وتعجب، ولسان حاله يقول "من أتى بك إلى هنا؟ ومن أنت؟ ترى أين من كان على ظهرك" فقلت له أنا من حكايات الزمان، أصلها من عمان، كنت في أمان، اُبحر، كما تبحر بنات جيلي، عبر خط تجاري بحري، حيث كنا ننطلق من الموانئ العمانية بمسقط وصحار وقلهات وصور، عبر بحر عمان وبحر العرب وصولاً إلى الهند. ومن ثم إلى ما يعرف اليوم بسيرلانكا متجهين عبر خليج البنغال إلى مضيق مالقا. وكنا سفنا تجارية نبحر بين شبه جزيرة الملايو وجزيرة سومطرة قبل الإبحار شمالاً إلى فيتنام أو سنغافورة.

كنا نحمل بين دفتينا التجار، يتزودون بالمؤن ويتبادلون البضائع في سنغافورة. أمّا التجار الذين كانوا يرغبون في الوصول إلى البر الرئيسي للصين فكانوا يتابعون طريقهم إلى بحر الصين الجنوبي متوجهين إلى كانتون حيث يتوقفون في جزر الباراسيل فقط للتزود بالماء والطعام.

تلك هي شذرات من حكايتي يا سيدي، نظرت إليه فإذا به مشدوها يعمّه الاستغراب وكأنّه ينظر إلى أسطورة لم تسعفه الخيال على استيعابها ولسان حاله يقول ها نحن في القرن العشرين وما زلت صبية تتمتعين بتألقك الأخاذ ونظراتك التي تسحر الألباب... كم أنت جميلة وكم كان صنعك متقن مبدع.

دار حديث بيني وبين ذلك الصياد.. في أي عام نحن يا سيدي؟ نحن في القرن العشرين، زمن يعتمد على التكنولوجيا الحديثة، لم يعد من مثلك بحاجة إليه.

أنا تاريخ الأوائل من أهل عمان دار بي الزمان.

طلبت منه أن يسدي إلي معروف، بعد ان أجج في نفسي لواعج الشوق والحنين الى مسقط الرأس ومهد الصبا، فرجوته أن يعيدني إلى وطن الخلد الذي لم يشغلني عنه شيء قط... يتبع.