أوبرا "دون جيوفاني" لموتسارت.. التمرد والقدر والقصاص الإلهي

 

 

د. ناصر الطائي *

في إحدى أكثر لحظات الأوبرا إثارة ودرامية، يقتحم تمثالٌ يرمز إلى القدر والقصاص المشهد لإحقاق الحق مقاطعًا حفل "دون جيوفاني" الشهواني. ويعد هذا المشهد أكثر مشاهد موتسارت الأوبرالية ظلاميةً وشؤمًا، فهو مشهدٌ معبر عن قوة القدر الساحقة التي تحطم جميع التقاليد الكلاسيكية، وتفتح الباب على حقبة جديدة من الاستمرارية الموسيقية في الأوبرا.

وقد بات هوس موتسارت بالقدر والرموز ذات الدلائل الشيطانية محور الموضوعات الرومانسية التي تناولها عظماء القرن التالي كبيتهوفن وفيبر وبيرليوز وغونو وفاغنر. وقد تعزز بناء المشاهد لدى موتسارت على المستوى الموسيقي من خلال العودة غير التقليدية لموسيقى الافتتاحية في المشهد الأخير مشكلة الإطار الموسيقي للعمل الدرامي. فتفيض الافتتاحية بالنفحة الرومانسية التي تتجلى في بدايتها المميزة بإيقاعاتها المنقوطة والنغمات المتنافرة وتركيزها هارمونيًّا على نغمات السلم الصغير. ويُقال إنَّ موتسارت ألف الافتتاحية في مساء العرض نفسه (أو قبله بيوم أو يومين)، وعُزفت المقطوعة فيما لم يجف حبرها بعد. فقد سيطر الجنون والرعب ولم يستطع موتسارت، إلا أنَّ يلبي هذا النداء ولقد رسخ في رائعته "دون جيوفاني" (1787) أسس ما تنطوي عليها الأوبرا اليوم من أبعاد سماوية سامية عبر طرح المفاهيم الرومانسية للتمرد والرعب والقدر والمصير والقصاص الإلهي.

بعدما تردَّدت أصداء نجاح موتسارت الساحق في عرض "زواج فيغارو" (1786) في براغ، كلفه متعهد الحفلات غوارداسوني بالعمل على أوبرا "دون جيوفاني" التي ألفها بيرتاتي من فصل واحد استنادًا إلى رائعة موليير "دون جوان"، وقد قام مؤلف النص الأوبرالي، لورنزو دابونتي، بإثراء أحداثها وإضافة مشهد المقابر المظلمة والموحشة في الفصل الثاني. لذا عمل موتسارت عن كثب مع دابونتي واستطاع تأليف عمل يجمع بين النمط الهزلي والجدي موفقًا بين حس الفكاهة الذكي والماكر والموضوعات القاتمة والتراجيدية التي غيرت من المفاهيم المتعارف عليها في القرن الثامن عشر. ونتج عن تعاونه مع دابونتي ثلاث تحفٍ أوبرالية قلبت جميع موازين العصر؛ وهي: "زواج فيغارو"، و"دون جيوفاني"، و"كلهن كذلك"، والتي يمكن تصنيفها جميعًا ضمن فئة هجينة يطلق عليها اسم "دراما جيوكوزو"، أو الدراما المرحة، وتتضمن مزيجًا من الشخصيات النبيلة والوضيعة في مواقف جدية وهزلية.

 

البطولة والشر والهرطقة

يُمكن تلخيص حبكة "دون جيوفاني" في عنوانها الطويل ("الفاسق يُعاقب، أو دون جيوفاني")، ففيها يلقى زير النساء المغرور عقابه العادل في المشهد الأخير من الأوبرا. وتتخلل هذه المشاهد الأساسية التي تحدد إطار الأوبرا لمحات من حياة زير النساء وغزواته ومواجهاته. كما تبلغ الدراما ذروتها وأكثر لحظاتها ظلامًا عندما يحل "التمثال الحجري" -للشخص الذي قتله في المشهد الاول- ضيفًا عليه، ويُخصص لهذا المشهد موسيقى خاصة تتميز براديكالية توزيعها الأوركسترالي وقالبها ونغماتها المتآلفة. فيرسم مشهد الافتتاح بصورة واضحة خطايا "جيوفاني"، الذي لم يتوفر أدنى شك في ما ارتكبه من جرم، ولا أي شك في حتمية عقابه.

وقد كان مشهد افتتاحية "دون جيوفاني" صادمًا ومقلقًا للجماهير الأوروبية التي لم تعتد من قبل على افتتاح الأوبرا بمشهد قاتم ومريع حول (محاولة) اغتصاب فتاة، تليها الجريمة الوحشية لقتل والدها الذي تدخل لإنقاذها. فلم يشهد مسرح القرن الثامن عشر قبل ذلك -ومعه الأوبرا الهزلية حتمًا- درجةً مماثلة من العنف والقسوة؛ إذ ينحرف خادم "دون جيوفاني" والمتقمص شخصيته، "ليبوريلو"، عن مسار هذه الدراما بملاحظة قاتمة تقشعر لها الأبدان قائلًا: "هذا رائع حقًا! اغتصب الابنة أولاً... ثم اقتل الأب"!

يعيش "دون جيوفاني" في عالم الليل المعتم. إلا أن ارتباكه العاطفي واضطرابه الأخلاقي تغطى عليهما موسيقى موتسارت بقناع من الأنغام المرحة والاحتفالية ترتبط بعالم اللذة الذي يعيش فيه. تتقن شخصية "دون جيوفاني" التنكر والبحث عن نساء جدد والهرب من ضحاياه السابقات، فنجده مجبرًا في خضم ذلك على تقمص شخصيات وتمثيل طبقات عدة تخترق بنية مجتمع القرن الثامن عشر. ففي ثنائيته الافتتاحية مع "دونا آنا" مثلاً، نراه يرتدي قناعًا ولا يصدر أي صوت، بل يكتفي "بتقليد" جملها الموسيقية. وبالإضافة إلى ذلك، تُجبره شهوانيته على تبادل الأدوار مع خادمه لكي يغوي نساء من طبقات أدنى، فيعبر في أغنيته ("إلى أن يشربن المدامة") عن واقع الفرح والسعادة لديه. فيعكس النغم العالي لهذه الأغنية الطاقة الشهوانية والحسية لديه بشكل جلي مع نفحات كروماتيكية من الإغواء والترهيب تدفع الرقص نحو "الجموح" و"الجنون"  كتمهيد لغزواته.

لكنَّ "جيوفاني" أيضًا بطلٌ نبيلٌ يتحلى بالشجاعة والجاذبية. وعلى الرغم من تحديه لطبيعته الفانية بحثًا عن رغباته الحسية، يرفض في البداية أن يقاتل الرجل العجوز ويرفض بكل شجاعةٍ أيضًا أن يتوب عندما يطلب منه تمثال القائد التوبة عن أعماله في المشهد الأخير.

ينشر "دون جيوفاني" الأرستقراطي الفوضى متذرعًا "بالحرية" عبر انتحال أدوار عامة الشعب والسخرية من القدسية والاحتفاء بميوله الشهوانية. لذا بالنظر إلى هذه الصفات المتناقضة، هو الشرير والبطل والنبيل والمهرطق وصاحب جاذبية لا تقاوم بالنسبة لمن حوله.

 

موسيقى "دون جيوفاني"

يعكسُ الطيف المظلم لـ"دون جيوفاني" عشق موتسارت للنغم التراجيدي في سلم ري الصغير، فهو مفتاح أروع أعماله التاريخية المظلمة. لكن في مفاهيم التنوير، يجب أن يقابل النور الظلام وينتصر عليه لضمان الاستقرار والانتظام. وتسيطر هذه الثنائية على الافتتاحية، إضافة إلى المشهد الختامي عندما تبتلع النار "دون جيوفاني" وتجره إلى الجحيم. ويتطلب التسلسل الطبيعي للأوبرا الوصول إلى خاتمة مختلفة عوضًا عن اختتامها بتراجيديا، فتأتي مقطوعة سداسية بعد موت "جيوفاني" حاملةً عبرتها وخاتمةً العمل في سلم ري الكبير.

وتشكل الاستمرارية بذاتها الطابع الراديكالي الأبرز للموسيقى، فتمتد افتتاحية موتسارت إلى أكثر من 30 دقيقة من الموسيقى المتواصلة التي تعبر المشاهد دون انقطاع، بخلاف "مقطوعات" الأوبرا التقليدية في تلك الحقبة. تبدأ الافتتاحية بموسيقى طاغية مستوحاة من مشهد دخول التمثال الحجري من المشهد الأخير، فيرسم الإيقاع البطيء وسلم ري الصغير مع النغمة المنقوطة صورة من الحزن والتشاؤم تقشعر لها الأبدان معلنة عن فعل شرير قادم في الأحداث التي ستتكشف. ثم ينتهي هذا القسم البطيء مفسحًا المجال لقسم أسرع وأكثر فرحًا في سلم ري الكبير مرسيًا نغمة الغموض في الأوبرا بين التراجيديا والكوميديا وبين الفناء والخلود، ولكنه يسلط الضوء بشكل خاص على شخصيتي "جيوفاني" المتصارعتين والمتضاربتين. ومن اللافت أنَّ نهاية الافتتاحية تُركت مفتوحة من دون نغمة ختام واضحة بل تنتقل مباشرة إلى المشهد الأول من خلال سلم فا الكبير القريب هارمونيا من سلم ري.

بعد ذلك تنتقل الافتتاحية إلى المقطوعة الأولى التي ينشدها "ليبوريلو"، خادم "جيوفاني"، وهو يراقب بيت النبيل بينما يحاول سيده إغواء امرأة نبيلة. تتميز موسيقى هذه المقطوعة ببساطتها واقتصارها على النغمات المتآلفة القوية والمهيمنة. يشكل "ليبوريلو" إحدى الشخصيات التقليدية من الطبقة الدنيا فنراه ينوح ويتذمر من عمله ويتمنى لو كان "من النبلاء" كسيده.

تتغيَّر النبرة بشكل مفاجئ عندما نسمع ضجيجًا يدنو من دون سابق إنذار. وتفتح مناجاة "ليبوريلو" الباب أمام ثنائية رائعة بين شخصيتين من النبلاء؛ هما: "دونا آنا" و"دون جيوفاني" المقنع الذي تطارده. وتتحول هذه الثنائية إلى ثلاثية مع تعليق "ليبوريلو" الساخر والهجائي في الخلفية.

يليها على الفور مقطعٌ درامي جديد عند دخول والد "آنا" طالبًا نزال الدخيل، غير أن "جيوفاني" يرفض ذلك. ولكن أمام إصرار القائد لا يملك "جيوفاني" خيارًا سوى قتل الرجل العجوز في معركة قصيرة. فلم يكن العجوز ندًّا كفئًا لـ"جيوفاني" الذي يختفي في جنح الظلام.

وقبل أن يتسنى للجمهور التقاط أنفاسه، يبدأ المقطع الدرامي التالي: تظهر "آنا" مع خطيبها "دون أوتافيو" لتجد والدها جثة هامدة وتنهار لهول الفاجعة. عندئذ تغني "آنا" إحدى أهم مقطوعاتها: "ارحل أيها القاسي، ارحل!" ويقسم الاثنان على الانتقام لموت أبيها. وتتحول موسيقى موتسارت من نبرة "آنا" التفكيرية إلى تعزية "أوتافيو"، في حين تتنقل الموسيقى بين الترجي والرغبة في الانتقام.

عندما رسم موتسارت خريطة البنية العريضة للعمل، اعتمد على خبرته السيمفونية مع الأنغام المتآلفة والقوالب الموسيقية حيث ترتبط مقاطع العمل بمفاتيح نغمية تمتزج مع بعضها البعض بسلاسة ودرامية (ري الصغير إلى فا الكبير، صول الصغير إلى ري الصغير، صول الصغير إلى ري الصغير). وتتميز كل وحدة درامية بلونها الخاص ونغميتها وإيقاعها وسلمها الموسيقي وارتباطها بشخصية معينة. لذا تُفتتح الأوبرا في سلسلة امتداد موسيقي متواصل غير مسبوق. وقد استطاع موتسارت إحلال التوازن بين الشخصيات (الهزلي مقابل الجدي) والموقع (المنير مقابل المظلم). ويعتبر "جيوفاني" هو الشخصية المرنة الذي يتنقل بين المجالين ويتحدى بناء الطبقات الارستقراطية العقيم. وهكذا يسخر موتسارت الموسيقى في الأساس لإملاء سير الدراما مبتعدًا عن جميع موسيقيي عصره الذين نادوا بخضوع الموسيقى لخدمة الدراما.

 

أغنية "الفهرس"

ولا تقتصر شخصية "ليبوريلو" على دور خادم "دون جيوفاني" فحسب، بل هو أيضًا بديل سيده. فتمنحه خلفيته كخادم من طبقة اجتماعية دُنيا دورًا كوميديًّا، لكنه يلعب دورًا أهم كراوي تجربة "دون جيوفاني". لكن بحكم طبقته الدنيا تبقى طموحاته محدودة وتقتصر على المتع الحسية (الطعام والشراب)، ولا يتطلع إلى أي مستويات حياة أعلى أو أكثر تعقيدًا تمامًا كشخصية "باباغينو" في "الناي السحري". كما أن "ليبوريلو" ملاحظ باهر، يقدم لنا نظرة داخلية عن حياة "جيوفاني" ويعلق عليها كما يبدي بعض الملاحظات التهكمية الحادة، خصوصًا حول الإغواء ومأدبة العشاء والمشاهد الأخيرة. ويبقى أيضًا على معرفة أكبر بـ"الثقافة الشعبية" السائدة في المجتمع فيطلع "جيوفاني" على آخر المستجدات في مشهد العشاء عندما يسمي المقطوعات الثلاث الشهيرة التي تُعزف والمأخوذة من أعمال أوبرالية معاصرة.

تعتبر المقطوعة الكوميدية "مادامينا" من أشهر مقطوعات "ليبوريلو" وتسمى أيضًا أغنية "الفهرس" (كاتالوج) في المشهد الثاني من الفصل الأول، وينشدها للزوجة المهجورة "دونا إلفيرا" ليخبرها بأنها لم تكن سوى رقم آخر في سجل غزوات "جيوفاني" العاطفية. لذلك لا تهدف الأغنية إلى إضفاء نفحة هزلية إلى مغامرات "دون جيوفاني" فحسب، بل ترمي أيضًا إلى إذلال "إلفيرا" لأنها أخذت "دون جيوفاني" على محمل الجد. إنها القسوة المقنعة بالكوميديا، وهي الفلسفة نفسها التي يدير "جيوفاني" على أساسها علاقاته مع النساء.

ويُفسر "ليبوريلو" في الأغنية طريقته المتقنة لتوثيق ضحايا "جيوفاني" بحسب الجغرافيا والطبقة والنوع والشكل أيضًا! فترسم الموسيقى في خضم ذلك صورة واضحة عن النص، في حين أنها تعمل كعداد يحصي الأرقام بإيقاع جنوني. ويدخل موتسارت في فن "رسم النص" عبر تخصيص نغمات موسيقية طويلة لعبارة المرأة "العظيمة" أو "لا غرانديه"، وتخصيص نغمات صغرى لعبارة "الصغيرة" أو "لا بيكينا". وتحظى عبارة "ليبوريلو" "لكن في إسبانيا، هناك مائة وثلاث!" بانتباه خاص عبر التكرار للتأكيد على عظمة الرقم والتباهي به.

الجزء الثاني من الأغنية هو مقطوعة بإيقاع (ألاندانتي) البطيء ولقد وضع هذا القسم كمقطوعة "مينويت" مهيبة يعدد فيها "ليبوريلو" مزايا خليلات "جيوفاني". غير أن النهاية تأخذ منعطفًا مظلمًا ومخادعًا للجانب الكوميدي فتجنح الموسيقى نحو السلم الصغير والسوداوي القاتم عندما يقول: "لكن شغفه الكبير هو العذراء البتول".

وقد نجح "ليبوريلو" كسارد ماهر في إعادة ذكريات شغف الشباب لدى "ألفيرا"، وأذلها عندما ألقى ملاحظة حول مكانها في القائمة. وعلى الرغم من النبرة الكوميدية لأغنية "ليبوريلو"، فهي تسخر من "ألفيرا" وتفضحها وتروعها. فتجسد أنشودة "الفهرس" لـ"ليبوريلو" الأوبرا في نبرتها الكوميدية المتهكمة والساخرة، وهي تجسيد لأغنية هزلية مع مزايا السلاسة والأناقة للـ"جيوكوزو" التي يقدمها راوٍ بارع.

 

المقطعان الختاميان

يكمُن جَمَال التصميم الموسيقي الذي أبدعه موتسارت في أوبرا "دون جيوفاني" في تناظر المقطعين الختاميين للفصول وروعتهما. فكما فعل في المشاهد الافتتاحية من الأوبرا، يستخدم موتسارت النغمية والقالب الموسيقي لتوحيد البنى الموسيقية ضمن وحدة كبيرة من الموسيقى المتواصلة. وفيما يخص تناسق الأنغام من البداية إلى النهاية، يستخدم موتسارت السلم النغمي نفسه بشكل يساهم في توحيد البنية النغمية للعمل، في حين أن المقطوعات التي تتوسط الأوبرا يستخدم فيها سلالم متقاربة وإيقاعات متباينة. ويتخلى موتسارت في المقطعين الختاميين عن الأسلوب الإلقائي ويعتمد على المقطوعات الموسيقية المغناة (الأغنية الفردية والثنائيات والمقطوعات الجماعية)؛ مما يجعلهما دليلًا قاطعًا على الإبداع الموسيقي والدرامي لموتسارت.

يستوفي الفصلان الأول والثاني متطلبات الكاتب "دابونتي" فيما يتعلق بنهاية درامية تشمل جميع الشخصيات والمقاطع الغنائية التي تتمتع كل منها بموضوع خاص بها. أما على المستوى الموسيقي، فيجب أن تتألف النهاية من مقطوعات موسيقية متواصلة، ويشكل ذلك مهمة هائلة تتطلب سلسلة طويلة من الأفكار الموسيقية المتجانسة وغير المتقطعة. ويتميز المقطع الختامي من الفصل الثاني بالحس الدرامي والتناظر فيستعيد موسيقى الافتتاحية ليرسم إطارًا للعمل، بل أكثر من ذلك ليصل إلى حل أخلاقي وسماوي (القصاص الرباني) للمشكلة المطروحة في المشهد الأول (الهرطقة).

المقارنة بين المقطعين الختاميين حتمية؛ فأوجه الشبه بينهما عديدة: كلاهما يعكس الحياة الاجتماعية في القرن الثامن عشر، وكلاهما ينطوي على "موسيقى احتفالية" تؤدى على خشبة المسرح، وكلاهما يحوي صرخةً تقاطع الفرح، إضافة إلى إشارة واضحة للرقم 3 فهناك ثلاث رقصات وثلاثة مقنعين يظهرون في المشهد الختامي الأول، وثلاث مقطوعات موسيقية عزفت لـ"جيوفاني" في المشهد الختامي الثاني. لكنَّ الفارق الأكبر يكمُن في الدراما؛ إذ ينتهي المقطع الختامي للفصل الأول بالفوضى وهروب "جيوفاني"، في حين أن المقطع الختامي للفصل الثاني يشهد الحل النهائي للدراما حيث يلقى الشرير مصرعه.

ويوضِّح المقطع الختامي الأول التباين بين العام والخاص، بين النور والظلام، وبين الفن البسيط والفن الراقي. وتجري الأحداث الدرامية لهذا المشهد في قاعة رقص يقيم فيها "جيوفاني" مأدبة لاثنين من الفلاحين: "زرلينا" و"ماسيتو"، مقبلين على الزواج. لكن هدف "جيوفاني" هو إغواء "زرلينا" عندما تلتهي عن خطيبها. فيدخل بكامل نشوته ويرافقه بعض الفلاحين على وقع أنغام الأبواق والترومبيت والتيمباني في سلم دو الصغير. وقد شكل مقطعه الترحيبي "نخب الحرية" محور تفسيرات متعددة ونقاشات حول صرخة موتسارت السياسية والاجتماعية ومبادئه حول الحرية.

يُرحب حشدٌ جماهيري بالمقنعين الثلاثة، وتبدأ بدخولهم إحدى أجمل اللحظات في تاريخ الأوبرا. فتؤدي ثلاث فرق من خارج المسرح ثلاث رقصات في الوقت نفسه دون تعارض! الفرقة الأولى تعزف "مينويت" أرستقراطي للمقنعين، والثانية تؤدي رقصة من الطبقة المتوسطة لـ"جيوفاني" و"زرلينا"، والثالثة تقدم رقصة الفلاحين (رقصة "التايتش" الألمانية) لـ"ليبوريلو" و"ماسيتو" والفلاحين الآخرين. وتسير هذه الرقصات الثلاث بتزامن واتساق مبهر؛ مما يعكس على المسرح لوحة فنية رائعة لمجتمع فيينا المؤلف من ثلاث طبقات اجتماعية.

يستغل "جيوفاني" الجو الاحتفالي لينفرد بـ"زرلينا" في زاوية مظلمة ثم تصرخ، فيهب "ماسيتو" والثلاثة المقنعون لنجدتها. عندئذ يلقي "جيوفاني" اللوم على "ليبوريلو" بقبول من الأخير، لكن الحشد يدين "جيوفاني" الذي يفر وسط الزحام.

يُشبه المقطع الختامي الثاني المقطع الختامي الأول من حيث تعقيده وابتكاره، إضافة إلى عنفه وظلاميته. فما تُرك بنهاية مفتوحة في الفصل الأول يصل إلى ختام تراجيدي في الفصل الثاني. لكن قبل المقطع الختامي الثاني، يطالعنا مشهد مرعب يمهد للنهاية. فيجد "جيوفاني" و"ليبوريلو" نفسيهما بعد مغامرة أخرى في إحدى المقابر المظلمة. وبينما يروي "جيوفاني" أخبار غزوته لـ"ليبوريلو"، يتدخل تمثال "القائد الراحل" ترافقه موسيقى آلات الترومبون. ويحمل التمثال النقش التالي: "أنتظر يوم الانتقام من الشرير الذي قتلني". فهذا التمثال هو نفسه تمثال القائد الذي قتله "جيوفاني" في المشهد الأول، لكن "جيوفاني" يطلب من "ليبوريلو" بسذاجة دعوته إلى العشاء، فيومئ التمثال برأسه إيجابًا أمام دهشة "جيوفاني" وذهوله.

تربط مقطوعة موسيقية احتفالية اجتماعية موازية للرقصات الثلاث بين الفصلين الأول والثاني. وعندما تكون تحضيرات العشاء في أوجها، يعزف الموسيقيون على المسرح في الخلفية "موسيقى المائدة" المؤلفة من ثلاثة ألحان شهيرة في ذلك الوقت. حيث حرص موتسارت على أن تكون الموسيقى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بجمهوره فاختار الألحان بدقة من ثلاث أوبرات معروفة حينذاك؛ وهي: "الجمال والصدق" لمارتينو سولير، و"فيما يتجادل الإثنان" لسارتي، إضافة إلى لحن من أوبرا "زواج فيغارو" من تأليفه. ولا تقابل هذه الألحان الثلاثة معًا الرقصات الثلاث من المقطع الختامي للفصل الأول فحسب، بل تقدم إطارًا مرجعيًا شعبيًا للمشهد الثقافي المعاصر في فيينا. وفي هذا المشهد الكوميدي، ينشغل "جيوفاني" بالأكل والشرب، بينما يقدم خادمه التعليق اللازم للموسيقى؛ مما يهيئ الجو للدخول المهيب والمرعب لتمثال القائد.

تربط صرخة "دونا إلفيرا" البائسة وهي تغادر منزل "جيوفاني" المقطعين الختاميين الأول والثاني. ولا يسعنا سوى أن نتخيل ما الذي أحدث لديها هذه الصدمة وهي تهم بمغادرة المسرح. وتتميز لحظة دخول التمثال بسلسلة من النغمات الاهتزازية للآلات الوترية ودقات صاخبة على الباب وأصوات الترومبون العالية. كما تترك عودة النغم المنقوط على سلم ري الصغير إحساسًا بمأساة قادمة تقشعر لها الأبدان. وكما في مشهد المقابر، يعلق موتسارت أهمية كبرى واستثنائية على استخدام الترومبون لأنه بقي حتى القرن الثامن عشر مقتصرًا على الموسيقى الدينية ولا يعزف على المسرح سوى في مشاهد الأشباح التي تتضمن ظواهر خارقة للطبيعة.

يتحدث تمثال القائد بنبرة آمرة وزاجرة، فنغماته الموسيقية التي تصاحب حديثه طويلة وثابتة وتتخللها فواصل مهيمنة وقوية لتأكيد كلامه؛ إذ لا شك في أوامره وقد آن أوان القصاص ولا وقت لإضاعته. يدعو "جيوفاني" القائد إلى مائدته بثبات ومن دون خوف، فيجيبه التمثال أنه لم يأت إليه لتناول طعام البشر بل ليلبي نداءً أسمى. ثم يأمره التمثال ثلاث مرات قائلاً: "أعلن توبتك"، غير أن "جيوفاني" كان قد حسم خياره فأبلغ القائد أنه لم يكن يومًا ممن ينكرون مسؤوليتهم وخصوصًا اليوم. ويتحدى "جيوفاني" قوة التمثال بعزم كبير ويمد يده الفانية إليه، فيشعر بأثر يد التمثال المرعبة ويسمع الأشباح يطلبون منه مجددًا أن يتوب. لكن "جيوفاني" يرفض فيلتهمه اللهب، فيما يتعالى صوت كورال من الشياطين معلنًا قصاصه المستحق.

 

******

 

تُبرز أوبرا "دون جيوفاني" ولع موتسارت بمواضيع الرعب والقصاص والقوى الشيطانية. فشكل هذا العمل رحلةً معمقة في الجوانب المظلمة من الحياة والمتعة والظواهر الخارقة للطبيعة، ما لم تشهده من قبل الأعمال الأوبرالية لذاك العصر. لكن كانت هذه المواضيع تشغل موتسارت وظهرت في أبهى صورها في رائعته الأخيرة، "قداس الموتى"، التي استخدم فيها سلم ري الصغير نفسه المعبر عن القوى الشيطانية لكن لم يتسن له أن يكملها.

يستحضر موتسارت موسيقى الافتتاحية ليبرز عناصر من موسيقى "الأومبرا" المرتبطة بعالم الظلال المظلمة، ونشاهد جمالية صياغة موتسارت المتوازنة وتناظرها وهي تتحطم أمام ظلام القدر وقوته، علمًا بأنَّ شخصية بجبروت "جيوفاني" وسطوته تحتاج إلى قوة من عالم آخر لكي تُهزم.

وبلجوئه بإلحاح للقوى الخارقة للطبيعة -بداية من أول نغمات وترية استهل بها افتتاحية العمل- استطاع موتسارت أن يتحدَّى جمهور الأعمال الهزلية التقليدية التي تتميز بحبكاتها سهلة التنبؤ بها وشخصياتها الكوميدية المتكررة. فقد جسدت موسيقى "الأومبرا" عالم الظلام بأفضل طريقة على المسرح بكل ما ينطوي عليه هذا العالم من شغف وعواطف وعمق ورعب وعنف، حيث شكل ذلك استكمالًا لأعمال موتسارت المفعمة بأجواء الأشباح كما في كونشرتو البيانو رقم 20 في سلم ري الصغير (مصنف 466، 1785) والسيمفونية رقم 38 "براغ" في سلم ري الكبير (مصنف 504، 1986)، وكانت تلك البدايات المفضية لـ"قداس الموتى"، في سلم ري الصغير (مصنف 626) الذي منعه الموت من إنهائه.

وتركت أوبرا "دون جيوفاني" أثرًا كبيرًا على أدب القرن التاسع عشر، فقد وجد الكثير من كبار الأدباء أن خصائصها الظلامية رومانسية بالفعل ومنهم جورج برنارد شو، وإرنست هوفمان، وسورن كيركيغارد الذي قال إن "دون جيوفاني" هي الأوبرا المثالية والكاملة في عصرها. ويضيف أن الأوبرا "هي أفضل تعبير ممكن عن أكثر المواضيع تجردًا، فتجمع بين الحسي والإباحي والأخلاقي بأكثر أشكال الفن تجردًا بما أنها ترمز لقوة الطبيعة المذهلة التي تجسد الحياة الخاضعة... والحتمية الشيطانية".

حتمًا تمثل أوبرا "دون جيوفاني" مواجهة بين العالم السماوي والعالم الشيطاني، ولقد أملى اصطدام هاتين القوتين الهائلتين على موتسارت استخدام طريقة راديكالية وغير اعتيادية لكتابة موسيقى القصة. فقد برهن اعتماد موتسارت على قوالبه وايقاعاته وتوزيعاته الأوركسترالية السيمفونية عن قدرته الفائقة على تحطيم النمط التقليدي ودق المسمار الأخير في نعش جمود الأوبرا الهزلية ومحدوديتها. فإن تغاضي "جيوفاني" عن الأخلاق وطريقة عيشه التي تتجاوز حدود اللياقة كان يلزمهما تدخل إلهي وعدالة سماوية.

ومن الناحية التاريخية، تعتبر رائعة "دون جيوفاني" نقطة تحول في مسيرة موتسارت الأوبرالية. فقد طعنت قصتها المثيرة للجدل النظامَ الجامد والإقطاعي السائد في القرن الثامن عشر في ما يتعلق بمواضيع الأرستقراطية والجنس والأخلاق. كما أن موسيقى موتسارت نفسها تخطف أنفاسنا بدءًا من مشهد الافتتاحية وصولاً إلى أداء كورال الشياطين في الختام. وعلى الرغم من طبيعة العمل الدرامية التسلسلية التي تفرضها القصة، تبرز ازدواجية الكوميديا والتراجيديا مع استمرارية الموسيقى الافتتاحية وعودتها في الختام إلى جانب آثار "الأومبرا" وهي جميعها ابتكارات جوهرية وجذرية لموتسارت الذي تجاوز حدود المتعارف عليه في عصره بتصويره لزير النساء "دون جيوفاني" الذي يتحدى طبقته الاجتماعية بأفعاله الآثمة، لكن في النهاية، تحتم أفكار عصر التنوير المثالية أن يُنزَل به القصاص. وينجح موتسارت في المحافظة على المثل العليا للعقيدة والمسؤولية الاجتماعية من خلال لجوئه إلى الظواهر الخارقة للطبيعة. وهكذا تمكن موتسارت بعبقريته الموسيقية من رفع القصاص الإلهي في "دون جيوفاني" إلى مستويات لامتناهية من السمو والإبداع.

 

تعليق عبر الفيس بوك