صفعة مزدوجة على وجه العدالة الدولية تهدد صمود "اتفاقية روما"

إفريقيا وروسيا تصفعان وجه العدالة الدوليّة

 

 

 

 

 

انسحاب بوروندي وجامبيا وجنوب إفريقيا من محكمة لاهاي بحجة التحيّز ضد القارة السمراء

"الجنائية الدولية": أمريكا ارتكبت "جرائم حرب" في أفغانستان والعراق

واشنطن ترد: تحقيقات المحكمة "غير ملائمة".. ولسنا طرفًا في "اتفاق روما"

خروج روسيا يتزامن مع قيامها بعمليات عسكرية واسعة النطاق في سوريا

اتهامات للمحكمة بخدمة السياسات الأمريكية والأوروبية و"الناتو"

 

الرؤية - محمد علي العوض

 

 

لم تكد المحكمة الجنائية الدولية تفق من صفعة انسحاب ثلاث دول إفريقية هي بوروندي وجامبيا وجنوب إفريقيا بعد اتهامها بالتحيز ضد زعماء دول القارة الإفريقية حتى تلقت صفعة كبرى أخرى من روسيا إحدى أكبر قوتين في العالم؛ عندما أوقفت مشاركتها في اتفاقية روما الخاصة بتأسيس المحكمة؛ حيث أعلنت وزارة خارجيتها أن محكمة الجنايات الدولية "خيبت الآمال" المعقودة عليها، ولم تعد هيئة رسميّة مستقلة ذات اعتبار في العدالة الدولية.

ووفقا للدب الروسي، من حيث المبدأ، فقد كان هناك عمل غير فعال وأحادي الجانب للمحكمة في إطار القضايا التي حققت فيها في مختلف الساحات، بما في ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. وتتعلل موسكو بعدم جدوى المحكمة الجنائية الدولية أنها أصدرت خلال 14 عاما من عملها 4 أحكام فقط، بينما أنفقت أكثر من مليار دولار. وتابعت الوزارة الروسية قائلة: "قرار روسيا الاتحادية في عدم المشاركة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ينطوي على عواقب قانونية منصوص عليها في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام 1969".

 

روسيا.. تخوف واستياء

ووقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مؤخرا، مرسومًا يقضي بانسحاب روسيا من المحكمة الجنائية الدولية، وجاء في المرسوم أنّ بوتين وافق على "مقترح وزير العدل الروسي حول إخطار الأمين العام للأمم المتحدة عن رغبة روسيا الاتحادية في عدم المشاركة في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية"، وأشار المرسوم إلى أنّ النظام "معتمد من قِبَل المؤتمر الدبلوماسي للمندوبين المفوضين تحت رعاية الأمم المتحدة في روما، في 17 يوليو عام 1998، وموقَّع باسم روسيا الاتحادية في 13 سبتمبر عام 2000"، وفق ما نقلته وكالة أنباء سبوتنيك الروسية الرسمية، وأصدر بوتين تعليمات للخارجية الروسية بإرسال الإشعار للأمين العام للأمم المتحدة.

ويرى مراقبون أنّ المحرك الأساسي للخطوة الروسية حماية قادتها العسكريين وجنودها الذين يحاربون في العديد من بلدان العالم من الملاحقة الجنائية، كما أنّ روسيا تتخوف من استخدام المحكمة الجنائية ضدها في بعض القضايا والنزاعات السياسية، بالإضافة إلى أنّ روسيا شعرت بالاستياء عندما وصفت المحكمة استعادة روسيا سيادتها على شبه جزيرة القرم بأنّها نزاع مسلح، ناهيك عن أنّ دور المحكمة الجنائية الدولية منذ إنشائها أخذ منحى يخدم سياسات الولايات المتحدة والدول الأوروبية المنضوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وهو الأمر الذي لا يخدم المصالح الروسية في ظل الخلافات الروسية الأورأمريكية.

ويركز خبراء روس على أن الخطوة الروسية بالانسحاب من المحكمة مهدت لها محاولات المحكمة الجنائية بفتح تحقيقات في الانتهاكات التي وقعت في عام 2008 خلال الحرب الروسية – الجورجية، وإلصاق تهم ارتكاب جرائم حرب بروسيا، وأشار الخبراء إلى أن قرار المحكمة بالقبض على الرئيس السوداني عمر البشير قد يمهد لصدور قرار مماثل بالقبض على الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف؛ بحجة وقوفه خلف جرائم الحرب في جورجيا. ويضيف المراقبون أن توقيت الانسحاب الروسي يتزامن مع قيامها بعملية عسكرية واسعة النطاق في سوريا.

 

الخرطوم أول المناوئين

في العام 2005 أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1593 والمتعلق بإحالة المشتبه في ارتكابهم فظائع إنسانية في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية والتي أصدرت بدورها مذكرات اعتقال في حق عدد من المتهمين وعلى رأسهم الرئيس السوداني عمر البشير الذي صدرت مذكرة اعتقال في حقه عام 2009 بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور والثانية في عام 2010 بتهمة ارتكاب إبادة.

السودان حاول مناوأة قرارات المحكمة بكل ما أوتي من قوة، ودفعت الخرطوم في وجه المحكمة حجة أنّ السودان ليس عضوا في المحكمة وليس طرفًا في نظامها الأساسي ولم يوقع على بنود اتفاقية روما، وأنّ ذلك يتناقض مع أحكام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969. فضلا عن أنّ قرار القبض على رئيس الدولة، وهو على سدة الحكم، ينافي القواعد المستقرة في القانون الدولي والسوابق القانونية المتعلقة بحصانة رؤساء الدول.

أصاب تحدي البشير للمحكمة بسفره خارج دولته ودعمه من دول عدة ومهمة بل بعضها عضو في ميثاق المحكمة؛ المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا بالإحباط الشديد، وشعرت بإهانة كرامة اعتبارية المحكمة. وأعلنت بنسودا في ديسمبر الماضي في تقرير لها لمجلس الأمن أنّها جمدت التحقيقات وحفظت ملف جرائم حرب في دارفور بسبب عدم تحرّك المجلس للضغط لأجل اعتقال البشير وثلاثة مسؤولين آخرين للمثول أمامها.

كما نجحت الخرطوم في تشكيل رأي عام إفريقي ضد المحكمة الجنائية بالعزف على وتر انحياز المحكمة ضد الأفارقة مع وجود حيثيات ماثلة عززت الجانب الذي ركّزت عليه الخرطوم في معركتها ضد المحكمة. حيث انتقد ممثلو الاتحاد الإفريقي المحكمة الجنائية متهمين إيّاها بأنها ركّزت بشكل كبير على انتهاكات حقوق الإنسان في القارة الإفريقية. بل طلب الاتحاد من المحكمة وقف إجراءاتها ضد أي رئيس أثناء فترة حكمه.

 

ليبيا ترفض

أيضا رفضت ليبيا تسليم سيف الإسلام القذافي إلى المحكمة الجنائية. وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد جددت طلبها من الحكومة الليبية، بتسليم سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي السابق، الذي يواجه عقوبة الإعدام في وطنه بعد أن قامت السلطات الليبية بمحاكمته أمام القضاء المحلي، بحجة أنّها لم توقع على الاتفاقية وبالتالي فهي غير ملزمة بالتعامل مع المحكمة..

وقالت فاتو بنسودا، إنه "يتعين على السلطات الليبية القيام بكل ما في وسعها لتسليم القذافي إلى المحكمة الجنائية الدولية دون مزيد من التأخير، تمشياً مع التزاماتها بموجب نظام روما الأساسي".

وعرضت المدعية العامة للمحكمة على أعضاء المجلس تقريراً بشأن تسليم نجل الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، ذكرت فيه أن "مكتب المدعية العامة قدم، في 26 أبريل الماضي، طلباً للدائرة التمهيدية للمحكمة للحصول على أمر موجه إلى السيد العجمي العتيري قائد كتيبة أبو بكر الصديق المسؤول عن احتجاز نجل القذافي لتسليمه. وفي 26 مايو الماضي طالبت بنسودا ذاتها مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على "كتيبة أبو بكر الصديق" وقائدها العتيري، لامتناعها عن تسليم سيف الإسلام القذافي، من أجل محاكمته في مقر المحكمة الجنائية الدولية.

 

رذاذ متطاير على أمريكا

لم تأت الوثائق التي تثبت صحة ارتكاب أمريكا لجرائم حرب من قبل دولة معادية لها، بل من قبل المحكمة الجنائية الدولية، والتي كشفت عن وجود دلائل تشير إلى ارتكاب القوات الأمريكية وعملاء في الاستخبارات المركزية جرائم حرب في أفغانستان، وقيامها بعمليات تعذيب في معتقلات احتجاز سريّة في عامي 2003 و2004.

وكشفت "فاتو بنسودا" المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في تقريرها السنوي حول الأبحاث التمهيدية عن جرائم أمريكا بالتفصيل للمرة الأولى، مؤكدة أن جنود أميركيين مارسوا أعمال تعذيب على 61 معتقلا، وأهانوا كرامتهم الشخصية على الأراضي الأفغانية؛ وتضيف أنّ عناصر في وكالة الاستخبارات المركزية "أخضعوا على ما يبدو 27 معتقلا على الأقل لتلك الأساليب على أراضي بلدان أخرى موقعة على اتفاقية روما مثل بولندا ورومانيا وليتوانيا، موضحة أنها ستقرر قريبا جدا أن كانت ستطلب فتح تحقيق. وكشفت فاتو نتائج تحقيق أولي طويل في فظائع وقعت في أفغانستان منذ مايو 2003. وقالت إن لديها "أساسا معقولا يسمح بالاعتقاد" بأن القوات المسلحة الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي ايه) الأميركية وطالبان وحلفاءهم وكذلك القوات الحكومية الأفغانية ارتكبت جرائم حرب.

وأكدت أنّ هناك دوافع معقولة للاعتقاد بأن هذه الجرائم "ارتكبت تنفيذًا لسياسة واحدة أو لسياسات تهدف إلى الحصول على معلومات عبر تقنيات استجواب تعتمد وسائل وحشية أو عنيفة تهدف إلى خدمة الأهداف الأمريكية في النزاع في أفغانستان"..

في المقابل؛ ندّدت واشنطن باتهام ممثلي ادعاء محكمة لاهاي لها، وجاء الرفض الأمريكي على لسان المتحدثة باسم الخارجية "إليزابيث ترودو" وقالت: لا نعتقد أنّ إجراء المحكمة الجنائية الدولية بحثا أو تحقيقا في تصرفات العناصر الأمريكيين في أفغانستان أمر مبرر أو ملائم. وتابعت ترودو متذرّعة بأن لدى أمريكا نظام وطني متين للتحقيق والمساءلة وأن عمله ما يزال قائما، ولم تنس أمريكا أن تركب مع ليبيا والسودان في ذات الحجة والقارب بأنّ بلادها ليست طرفا في نظام روما الأساسي (الذي أنشأ المحكمة)، ولم توافق على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

وفي تناقض واضح مع ما رشح عن رفضها سلطة هذه الهيئة القضائية على خلفية تحقيق ضد عسكريين وجواسيس أميركيين في أفغانستان؛ انتقدت الولايات المتحدة موقف روسيا التي هددت بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، بل واتهمت موسكو بارتكاب أفعال "غير مقبولة" في "انتهاك للقانون الدولي" في سوريا.

 

 

محكمة لاهاي تدين جرائم "تل أبيب" على غرار "واشنطن"

 

ويعيد للأذهان تقرير محكمة لاهاي بشأن جرائم أمريكا في أفغانستان، التحقيق الذي فتحته المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية حول جرائم ارتكبها الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين، والذي أثار امتعاض واشنطن الحليفة الأقوى للكيان، الأمر الذي يشير الى وجود توافق أمريكي اسرائيلي في اتباع سياسة التعذيب تجاه المعتقلين. وكان قد أدان تحقيق المحكمة جرائم حرب ارتكبها الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية لاسيما في قطاع غزة صيف 2014. وكشفت المحكمة أنّ قرابة 2200 فلسطيني قتل جرّاء الحرب الصهيونية على غزة والذين كان غالبيتهم من المدنيين. في حين لم يقتل من الطرف الإسرائيلي سوى 70 جنديا صهيونيا.

من جهته طالب د. رياض المالكي وزير خارجية فلسطين في الدورة 15 لجمعية الدول الأطراف في نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، المجتمع الدولي والدول الأعضاء بتحمل مسؤولياتهم، ومحاربة سياسة الإفلات من العقاب، وقال: "على العالم أن يقف متحداً في مواجهة الإفلات من العقاب، ولدينا خيار إما مكافحة الإفلات من العقاب، وردع الجرائم أو الاستسلام للواقع حيث تبقى الجرائم دون عقاب، والضحايا بلا عدالة، ونحن في فلسطين لا نعرف الاستسلام.

 

 

فتح شهية

 

ويبدو أن انسحاب عدد من الدول الإفريقية والموقف الروسي فتح شهية باقي الدول التي تراود نفسها بالانسحاب من المحكمة، حيث قال الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي، إنّه ربما يتخذ خطوة مثل التي اتخذتها روسيا بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، ووصف دوريتي المحكمة الجنائية، في تصريحات قبل سفره إلى ليما عاصمة البيرو لحضور قمة دول آسيا والمحيط الهادي، بأنّها "عديمة الفائدة"، كما ندد دوتيرتي بالولايات المتحدة ودول غربية اتهمته بالقيام بأعمال قتل غير شرعية نفذها أثناء حربه ضد تجار المخدرات، كما ألقى دورتي باللائمة على الولايات المتحدة بأنّها السبب في فشل وقف الحروب في مختلف أنحاء العالم. وأشار دوريتي إلى أنه في حال سعي روسيا والصين لتشكيل "نظام جديد" فإنّ الفلبين ستكون أولى الدول المنضمة له.

كما ألمحت كل من ناميبيا وكينيا اللتين يتهم فيهما رئيسا البلاد بالضلوع في جرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى أوغندا، باحتمال القيام بخطوة الانسحاب، حيث تتهم بعض الحكومات الإفريقية أنّ المحكمة الجنائية الدولية والتي تأسست عام 2002 أظهرت انحيازًا ضد قادة القارة السمراء، فمنذ نشأت المحكمة التي يقع مقرها في هولندا، وهي تركز على فتح تحقيقات في أربع قضايا إفريقية دون سواها.

 

اتهامات بالرشى

لم تقتصر الاتهامات الموجهة ضد المحكمة الجنائية الدولية على التحيز فقط بل طالتها اتهامات أخرى متعلقة بالرشى، حيث قالت مصادر صحفيّة إنّ رئيسة المحكمة الجنائية الدولية سيلفيا فيرنانديز تلقت رشى بملايين الدولارات من أجل أن توجه اتهامات للرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم في إقليم دارفور. وذكرت صحيفة "ذي لندن إيفينينغ بوست" البريطانية أن سيلفيا تلقت في حساباتها المصرفية الخاصة أموالا تربو على 17 مليون دولار أميركي استُخدمت في رشوة شهود، من أجل اتهام البشير. واستخدمت غورميندي تلك الأموال لجمع أدلة وهميّة وإحضار شهود زور للإدلاء بشهاداتهم ضد الرئيس البشير؛ من بينهم حركة تحرير السودان التي أسسها عبد الواحد محمد نور وآخرون عام 2002. وسبق ذلك تقديم أدلة تظهر تورط المدعي العام السابق للمحكمة لويس أوكامبو في قضية البشير تتضمن تسجيلات صوتية ومرئية، فضلا عن بيانات مصرفية تبين حركة أموال طائلة لشراء ذمم شهود واستخدامها في القضية المرفوعة ضد البشير.

من جهته طالب ديفيد ماتسانغا غورمندي رئيس المنتدى الإفريقي، رئيسة المحكمة الجنائية الدولية القاضية المدعوة سيليفيا أليخاندرا فيرنانديز دى غورمندى (ارجنتينية الأصل) بتقديم استقالتها من منصبها، لأنها-كما قال- "من غير اللائق لرئيسة المحكمة الجنائية الدولية أن تتلقى مبالغ ضخمة غير مبررة تفوق راتبها السنوي" وأضاف أن لائحة الاتهام ضد الرئيس البشير يبدو الآن أنها وُضعت عبر رشوة كبار مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية. وأضاف أنّهم في المنتدى الإفريقي سبق أن قدّموا أدلة تظهر تورط المدعي العام السابق للمحكمة لويس أوكامبو في قضية البشير ولديهم ملف ضخم من الأدلة ضد أوكامبو، يتضمن تسجيلات صوتية ومرئية، فضلا عن بيانات مصرفية تبين حركة أموال طائلة لشراء ذمم شهود واستخدامها في القضية المرفوعة ضد البشير".

تعليق عبر الفيس بوك