مدارات عربية

عُمان.. وإرادة التوازن الاستراتيجي

د. رفعت سيد أحمد

بعيداً عن أيّ خلاف سياسي، مع سلطنة عُمان، وهو أمرٌ واردٌ ومشروع فى منطقتنا العربية والإسلامية التي أصيبت بزلازل سياسية سميت زيفاً بـ(الربيع العربي) خلال الخمس سنوات الماضية، فاهتزت الثوابت، والمُسلمات، بعيداً عن هذا فإننا نعتقد أنّ الدور الذي قامت ولا تزال تقوم به هذه الدولة، غاية في الذكاء الاستراتيجي، غاية فى الأهمية والوعى بـ(الموقع) و(الموضع)، كما كان يسمى (جمال حمدان) المفكر والعالم المصري الراحل، حال بلاده (مصر) مع الجغرافيا في كتابه الأشهر (شخصية مصر).

* عُمان اليوم تفهم جيداً أهمية (الموقع) و(الموضع) بالنسبة لها وهو فهم انعكس على دورها الإقليمي والعالمي خلال الفترة من (1970) حتى اليوم (2016)، أي فترة حكم السلطان قابوس بن سعيد .

لقد امتلكت هذه الدولة من خلال موقعها الاستراتيجي، وحكمة نظامها السياسي، القدرة على إحداث توازن استراتيجي بين الفرقاء في المنطقة والعالم، الجميع كان خلال العقود الماضية يتصارع، ويصل إلى حد الحروب الدامية، في هذا الجناح الآسيوي لعالمنا العربي والإسلامي، ووحدها (عُمان) كانت دولة السلام وإطفاء الحرائق والحلول الوسط، لذا لجأ إليها المتصارعون، وتصالحوا سواء من (تحت المنضدة)، أو من فوقها، لقد كانت عُمان هي صاحبة الدور الأبرز فى مصالحات أمريكا ومعها المنظومة الغربية وإيران إلى أن توصلوا لحل قصة الملف النووي، وهي من أطفأت النار التي أشعلها الخلاف بين السعودية وبعض دول الخليج من ناحية وبين إيران خاصة في السنوات القليلة الماضية، وهي التي قادت ولاتزال، مفاوضات التسوية (ومن ثم السلام) في اليمن الممزق والدامي بعد عاصفة الحزم، وعلى أرضها لا تزال تجرى مفاوضات دولية غاية في الأهمية، لإنهاء الحرب العالمية الدائرة الآن في سوريا .. إنها دولة، لا يتكلم حكامها كثيراً، ولكن يفعلون.

***

ترى ما السر الأكبر خلف هذه القدرة على خلق ورعاية التوازنات الاستراتيجية في المنطقة والعالم والتي تقوم بها عُمان؟ .

* إنَّ حكمة الإدارة السياسية للدولة – مهما اختلفت معها في قضايا أخرى – هي المنطلق، وهذا هو (الموضع) الذي قرره التاريخ، أما العامل الثاني فهو الموقع كما حسمته (الجغرافيا) وفي هذا تقول الحقائق الجغرافية إنّ عُمان كدولة مؤثرة تقع بين خطي العرض 16 درجة و28 درجة شمالاً وخطي طول 52 درجة و60 درجة. ووفقاً للموسوعة العالمية – ويكيبيديا – فإنّ عُمان صحراء الحصى سهل واسع تغطي معظم وسط سلطنة عُمان مع سلاسل الجبال على طول الشمال، جبال الحجر والساحل الجنوبي الشرقي، حيث توجد أيضاً المدن الرئيسية في البلاد: العاصمة مسقط وصحار وصور في الشمال وصلالة في الجنوب مناخ عُمان حار وجاف في المناطق الداخلية ورطب على طول الساحل.

وأهم مناطق جغرافيا عُمان تأتي شبه جزيرة مسندم التي تتميز بموقع إستراتيجي على مضيق باب السلام وتنفصل جغرافياً عن بقية سلطنة عُمان من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة. سلسلة من البلدات الصغيرة التي تعرف باسم دباهي بوابة الدخول إلى شبه جزيرة مسندم في البر وقرى الصيد من محافظة مسندم عن طريق البحر مع القوارب المتاحة للاستئجار في ولاية خصب للرحلات إلى شبه جزيرة مسندم عن طريق البحر.

* تعتبر ولاية مدحاء جزءًا من سلطنة عُمان رغم أنها محاطة من جميع الجهات بدولة الإمارات العربية المتحدة وهي جيب خارجي لعُمان وتقع في منتصف الطريق بين شبه جزيرة مسندم والجزء الرئيسي من سلطنة عُمان وباقي الأراضي العُمانية، وتتبع إدارياً محافظة مسندم التي تغطي ما يقرب من (29.75كم2).

***

هذا الموقع الاستراتيجي، ساهم في إعلاء الدور الإقليمي والدولي لهذه الدولة المهمة، وجعلها نقطة التوازن الاستراتيجي الأبرز في العالم العربي والإسلامي في جناحه الآسيوي، والتي يحرص الجميع على سلامها، وأمنها واستقرارها، ويحرصون أيضاً على الاستماع لنصحها ووساطتها في أغلب قضايا المنطقة، لأنها وساطات تأتي من قبل طرف يقدره الجميع، ويحترمه، ويعلم أنه الأعقل، والأكثر تجرداً ولا تحكمه المصالح الضيقة كما هو حال بعض دول المنطقة الأخرى وإلى هذا انتهت الصحفية الأمريكية الشهيرة جوديت ميلر في حوارها الشهير مع السلطان قابوس عام 2012، وغيرها من الخبراء المتخصصين، ولقد صدق الباحث علوان نعيم الدين في دراسته الصادرة عن مركز دراسات الشرق الأوسط (يوليو 2014) والمعنونة بـ(عُمان بين الدور السياسي والموقع الاستراتيجي) حين انتهى إلى أنّ الموقع الاستراتيجي هو عامل قوة لهذه الدولة، خصوصاً اذا ما نظرنا الى محافظة مسندم التي تفصل بينها وبين بقية المحافظات دولة الإمارات العربية المتحدة، وتبلغ مساحتها حوالي 1800 كيلومتر. وهذه المحافظة تقع على "فم" مضيق هرمز الاستراتيجي، الذي تمر منه حوالي 40% من نفط العالم؛ وإلى القول بأنّ الهدوء السياسي الموجود فيها يعود إلى طبيعة النظام الحاكم. وطبيعة الشعب العُماني الذي يتمتع بأخلاق عالية، وهذا ما تعترف به العديد من الشعوب العربية الأخرى، إذا يتميز بسهولة التعامل معه وطريقته اللبقة في التعامل مع الآخرين سواء داخل السلطنة أم خارجها" .

* إنَّ الرؤية السياسية لدولة عُمان من وجهة نظر الخبراء تتصف بالمحافظة على التمايز من خلال رفض الدخول في إطار خليجي اقتصادي مشترك أو موحد، بحيث تريد عُمان الإبقاء على خصوصية معينة لها تمنحها هامشاً من الحركة، خاصة وأن بعض دول الخليج تعاني من مشاكل فيما بينها، وبينها وبين بعض من الدول الإقليمية المجاورة (خاصة إيران!) .

***

* ماذا يعني هذا ؟ إنه ليدفعنا إلى القول ببساطة، وعمق، وحسم، إننا إزاء دولة تمتلك إرادة استراتيجية وإصراراً تاريخياً وجغرافياً في أن تظل حافظة للتوازن الاستراتيجي في "خليجها" العربي وشرقها الآسيوى وأمتها العربية، إن قدرتها على إدارة وحل العديد من الملفات المتأججة في المنطقة تنتهي بنا إلى هذه النتيجة، وتتطلب منّا عربياً، أن ندعوها إلى ضرورة التمسك بثوابتها، والاستمرار فيها لماذا ؟ لأنّ أي خلل – لا قدّر الله – يصيب هذه المنظومة التى تحكم الدور العُماني في (موقعه) و(موضعه) سيؤدي إلى آثار سلبية عديدة تمتد من علاقة إيران بالخليج أو علاقة دول الخليج بأمريكا وعلاقة النفط بأسواق العالم؛ بل وإلى التجارة الدولية بأنماطها وحروبها الأخرى.

* إنّها نقطة التوازن الاستراتيجي التي ينبغى أن يحافظ عليها العالم، وأن تحافظ هى أيضاً عليها ونحسبها كدولة، تفهم دورها الاستراتيجي التاريخي، جيداً، ومن المفيد أن يدرك المتصارعون في المنطقة أهمية أن تمسك دولة عروبية وشعب حكيم بمفاتيح السلام، لأزمات المنطقة، من سوريا والعراق إلى اليمن وأفغانستان، هكذا تقول الجغرافيا، ويحدثنا التاريخ !! .

E-mail: [email protected]