الهند (الدرس الأول): المفتاح

 

 

عائشة البلوشية

 

أولاً يُقال إنَّ في السفر سبع فوائد؟، لذلك وعودة إلى الدروس المُستقاة التي يجب أن نتعلمها من أيّ سفر، أعود بكم إلى الدَّرس الأوَّل الذي فضَّلتُ تأجيله عمدًا، ﻷتثبَّت من أنَّه فعلاً هو ذات الدرس الذي تعلمته في اليوم الأوَّل لوصولي، وللتحضير لحصة اليوم أذكركم بقصّة الزوجين الشابّين الذين انتقلا للعيش في أحد الأحياء الجديدة، وفي صباح اليوم التالي وبينما كانا يتناولان إفطارهما لمحت الزَّوجة عبر زجاج النافذة جارتها وهي تنشر غسيل ملابسها في الخارج، ثمَّ قالت مُعلّقة: "هذه المرأة غسيلها متّسخ، إنِّها حتى لا تعرف كيف تغسل الملابس"، نظر زوجها عبر النافذة وهو صامت، وفي كلّ مرّة كانت المرأة تنشر غسيلها، كانت الزوجة تُبدي نفس الملاحظة، وبعد شهر، دُهشت الزوجة عندما رأت ملابس نظيفة ولامعة على حبل غسيل جارتها، فقالت لزوجها: "أنظر، لقد تعلّمت كيف تغسل جيّدا، غريبة! ترى من علّمها هذا؟"، فردّ عليها الزوج قائلاً: "يا عزيزتي، لقد استيقظتُ مبكّرا هذا الصباح وقمت بتنظيف زجاج نافذتنا"...

 

مشاعر مُتناقضة كانت تلك التي تعتمل في خافقي، وطائرة الطيران العُماني محلقة في الأجواء حاملة من فيها إلى مطار تشارباتي شيفاجي الدولي في مومباي بجمهورية الهند، وقد وصلت إلى حافة الامتلاء بما سمعته عن تلك المدينة المليونية من أهل البلاد أنفسهم، وممن زارها بغرض السياحة العلاجية أو السياحة التجارية، وأنا على تلك الحال وعشرات الأسئلة تتقاذفني ما بين السلبية المُتعبة والإيجابية المنقذة، نفضت تلك الثرثرة الداخلية من رأسي وقلت في نفسي: "منذ متى وأنا اسمح لنفسي أن أنظر للأمور بعيون الآخرين؟ سألقي بكل ما سمعته في سلة مُهملات الزمان وسأرسم صورة البلاد لنفسي، ولمن أراد أن يبحث عن مكامن الجمال في لوحة سوداء صامتة، وأن أثبت على مبدأ رسمته لنفسي، ألا وهو ألا أستعير نظارة غيري، فتذكرت أنَّ البشر خلقهم الله أصنافاً مختلفة، وأن الاختلاف هو سنة الله في خلقه، وأن هنالك صنفاً من البشر لا يرى إلا القبيح والسلبي في جميع أمور حياته، ويصر إصرارا عجيباً أن ينقل هذه الصورة إلى من حوله، ضارباً بالرغبة الشخصية ﻷي شخص في تكوين رأيه الذاتي عرض الحائط، ولا يمكنه كبت هذه الشحنات، بل ينتهز الفرصة السانحة ليبدأ في نشر تلك الطبقات الثقيلة من السلبية معتقدًا وموهمًا نفسه بأنّه يُقدِّم خدمات جليلة، كما أنَّ هناك صنفاً من البشر يملك قلب طفل في براءته وسذاجته، أي أنّه يتأثر بما يُقال له، ويتَّخذ قراراته وأحكامه بناءً على آراء النوع السابق من البشر، وهذا النوع يُعاني جدًا في الحياة، فهو يحرم نفسه لذة المحاولة، وحماس التجربة، وهناك نوع ثالث من البشر يفضل الاتكاء والراحة ويترك لغيره رسم مسير حكمه على البشر وعلى مُجريات الأمور...

 

لنعتبر أنَّ كل موقف أو معضلة أو تحدٍ في هذه الحياة عبارة عن غرفة مُغلقة، لها باب واحد مُوصد ومغلق بمفتاح، والمفتاح مُعلق إلى جانب الباب، لذا هل سننتظر أن يأتي غيرنا وينزع المفتاح ويتصرَّف به كما يحلو لشخصيته، أي أنّه ربما سيرمي المفتاح على قارعة الطريق، أو ربما وضعه في جيبه ومضى، وقد يكون شخصًا طيبًا ويفتح الباب ولكنه يلتصق برأسك التصاقاً ويبدأ في كيل سلبيات الكلمات حتى لا تدخل، فتتراجع خطوات وتولي هاربًا، وتكتشف بعد زمن قد يطول وقد يقصر بأن سعادتك والحل الذي تبحث عنه كان وراء ذلك الباب المُغلق، فيقرضك جرذ الندم على تسليم أذنك وعقلك لشخص آخر، كن جريئاً ولا تعطل ما ميَّزك الله به دون غيرك من المخلوقات (عقلك)، غامر وحاول فتح باب الفرصة، لا تدري فربما كان وراء الباب عدة أبواب، ووراء كل باب فرصة جديدة وجيِّدة...

 

لا تترك لغيرك التحكم في نظرتك للأمور، بل كون رأيك عنها بنفسك، ولا تقلق إن أخذ ذلك منك وقتًا، وليت أولئك الذين يتبوؤون موقع الوصي على أدمغتنا التحلي بالصمت، ويتذكرون أنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يذكر أحدًا إلا بخير، حتى أنه صلوات ربي وسلامه عليه على مستوى طعامه وكما ورد في الأثر أنّه ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وذلك ليعلمنا أننا قد لا نشتهي نوعًا معينًا من الأطعمة ولكن غيرنا يأكلها ويفضلها، وحكمنا المُسبق قد يدفعه لئلا يمد يده إليه، وهذا ينطبق حرفياً على الأشخاص في محيطنا، فربما همسة نارية من جليس قريب عن شخص مُقبل عليكما تجعلك تنظر إليه شزرا، وتصافحه ببرود شديد، وعندما تجلس إليه تجده شخصًا أبيض القلب يخدم الجميع، كذلك الحكم على جمال مكان مُعين أو بلاد من عدمها، فهناك من يزور ويصادف تجربة تجعله لا يُطيق العودة إلى تلك البلاد، فينطلق ينفر الآخرين من ذلك المكان، ويشاء الله أن تذهب إليه في زيارة عاجلة وتجده عكس ما قيل تماماً، وترغب لو طال بك المقام فيه...

 

خلاصة القول احتفظ بمفتاح حكمك على أيّ شخص/شيء لنفسك، ولا تسلمه لغيرك فقد يستخدمه في الباب الخاطئ ويعود وبالاً عليك، وإياك أن تضع مفاتيح أبواب سعادتك في جيوب الآخرين، ﻷنّك عندما تحتاجها ربما تكون مضطرا أن تقف أمام أبوابهم كالشحاذين الذين يتم طردهم بذل ومهانة، واحذر أن تسلم أذنك أو تستعير عيون السلبيين من البشر، وإلا لن ترى سوى السواد والقبح ولن تسمع سوى المحزن والسيئ، وكن مدركا أنّ كل كلمة تلقيها على مسامع غيرك هي أمانة عظيمة، فلا تنقل له الغث ولا تغشه بارتداء قناع يختلف تماماً عن شخصيتك الحقيقية، فمن لبس القناع، أضمر الخداع، وبالتالي لن تجد معه سوى المغشوش والرخيص من اللغو والمتاع....

 

 

-----------------------------------------------------

توقيع:

"وإذا الشدائد أقبلت بجنودها.. والدهر من بعد المسرة أوجعك

لا ترجُ شيئاً من أخٍ أو صاحب.. أرأيت ظلك في الظلام مشى معك

وارفع يديك إلى السماء ففوقها.. رب إذا ناديته ما ضيعك"

لقائلها.