مصير علماء العراق؟!

 

 

زاهر المحروقي

برحيله الغامض يوم الجمعة 7 أكتوبر 2016، أعاد العالِم البيولوجي العراقي البروفيسور حازم الدراجي، طرح سؤال سكت عنه العرب طويلاً؛ وهو: ما مصير العلماء العراقيين الذين اختفوا في ظروف غامضة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق؟ بالتأكيد إنَّ البروفيسور حازم الدراجي ليس معروفاً عند عامة الناس، مثله مثل كلِّ علماء العراق المختفين؛ فهو عضو في الاتحاد الدولي للمخترعين، ومؤسس منتدى المخترعين العراقيين ورئيسه، وهو العالِم الأول في مجال تكاثر طيور النعام، وحاصل على 30 براءة اختراع، وعلى 100 ميدالية خلال مشاركته في 40 محفلاً دوليًّا، وقد عُرضت عليه إغراءات لترك العراق ولكنه رفضها، رغم حالته المادية المتواضعة. جاء رحيله عن عمر ناهز 51 عاماً نتيجة "حريق غامض" في غرفة نومه بالطابق الثاني بمنزله في بغداد؛ حيث حطم أهله الباب في محاولة لإنقاذه، إلا أنهم وجدوه مفارقاً الحياة، والغرفةُ محترقةٌ بالكامل، لتكتمل مسيرة رحيل العلماء العراقيين ما بين موت غامض واعتقال واختطاف واختفاء وفقر، ومن نجا منهم فإنَّ مصيره أمراضٌ نفسية؛ وحسب تقارير رسمية عربية ودولية، فقد أكدت وجود جهات "أجنبية" وراء ظاهرة إفراغ العراق من كوادره المميَّزة. وشهد العام الماضي وحده اغتيال 53 عالماً واختفاء 27 آخرين.

هناك إشارات على الاهتمام الأمريكي بعلماء العراق حتى قبل الغزو الأمريكي؛ إذ نشر مارك كلايتون المحرر في صحيفة "كريستين سايَنْس مونيتور" في العام 2002، لائحة بعدد من علماء العراق الذين تدرَّبوا في أمريكا، والذين اعتبرهم "أخطر من أسلحة العراق الحربية، لأنهم هم الذين يُنتجون هذه الأسلحة"، ودعا حينها مفتشي الأسلحة الدولية "ألا يكتفوا بالبحث عن أسلحة الدمار، ولكن عليهم محاولة إيجاد الأشخاص الذين يعرفون كيف يصنعونها"، وهو ما حصل بعد الاحتلال. ولم يكن هذا هو التحذير الوحيد من خطورة العلماء العراقيين؛ فقد أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية قائمة تتألف من 55 مسؤولاً عراقياً من المطلوبين، بينهم عدد من علماء العراق النوويين والبيولوجيين. وحسب تقرير نضال حمد في "العربية نت" فهناك أكثر من 500 عالم عراقي لا أحد يعرف أين هم؟، كما أنّ هناك نحو 18 ألف عالم ومهندس وخبير فني وإداري عراقي عملوا في البرنامج العسكري العراقي قد اختفوا عن الوجود، ولا يُعرف مصيرهم.

وفي تقرير عن مصير علماء العراق، يُشير موقع "ساسة بوست" إلى أنَّ خطة أمريكا  لتصفية علماء العراق اعتمدت على ثلاثة خيارات؛ الأول هو الخيار الألماني ويتمثل في محاولة دفع علماء العراق إلى إفشاء المعلومات إلى الجهات الغربية، فقد صادق مجلس الشيوخ الأمريكي في أكتوبر 2002 على قانون يقضى بـ"منح العلماء العراقيين الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عن برامج بلادهم التسليحية، بطاقةَ الهجرة الأمربكية الخضراء، ووعدهم بآفاق بديلة أكثر إشراقا"، ثم كان القرار الأممي 1441 الذي أصرت واشنطن على تضمينه بنداً يقضي باستجواب العلماء العراقيين. ويتمثل الخيار الثاني في تصفية العلماء، أو ما يسمى بـ "الخيار السلفادوري"، وهو ينسب  إلى "مجزرة السلفادور" التي أشرفت عليها "سي آي إيه" في أمريكا اللاتينية وقامت خلاله بتصفية العلماء. وجاءت القوات الأمريكية إلى العراق وهي تحمل قوائم بأسماء العلماء العراقيين الذين وردت أسماؤهم في قوائم مفتشي الأسلحة الدوليين وعناوينهم والأبحاث التي يعملون عليها، فتم اعتقالهم أو قتلهم أو تغييبهم. أما الخيار الثالث فيتمثل في الاستهداف المباشر وغير المباشر، ويقوم على فلسفة المزاوجة بين الخيارين "الألماني"، أي احتواء العلماء وإعادة توظيفهم خدمة للمصلحة الأمريكية، والخيار "السلفادوري" القائم على تصفية من يرفض الإغراءات الأمريكية.

إذا كان هناك مجموعة من العلماء أو الخبراء استجابوا للخيار الألماني؛ إذ دفعهم الخوف أو دفعتهم المصلحة للارتماء في أحضان الأعداء؛ إلا أنّ هناك رموزاً وطنية أخرى رفضت الخنوع للاحتلال، ومن هؤلاء العالِمتان هدى عماش ورحاب طه، اللتان اعتبرتهما قوات الاحتلال الأمريكي "سجينتين خطرتين بسبب علاقتهما ببرنامج الأسلحة الجرثومية"، وأطلق الاحتلال عليهما لقب السيدة جمرة خبيثة والدكتورة جرثومة، وهما اللتان لبثتا في سجن أبو غريب سنوات قبل أن يتم إطلاق سراحهما، لإصابة د. هدى بسرطان الثدي؛ أما د. رحاب طه فقد احتضنتها جامعة صنعاء في لفتة علمية وإنسانية رائعة.

ويقول د.خالد محمد غازي رئيس تحرير وكالة الصحافة العربية بالقاهرة، إنَّ الأرقام المعلنة عن العلماء والأساتذة الذين تم اغتيالهم وإجبارهم على الرحيل عن العراق مفزعة، ويكفي أنّ المعلومات التي ذُكرت في ندوة عُقدت بالقاهرة، تشير إلي أنَّ فرق الاغتيالات الإسرائيلية اغتالت حوالي 310 من علماء وأساتذة العراق، ولاحقاً تم الكشف عن أنّ أكثر من 500 من علماء العراق وأساتذته موضوعون على قوائم الاغتيال الإسرائيلية، وتشير أيضاً إلى أن 17 ألفاً من العلماء والأساتذة أجبروا علي الرحيل عن العراق منذ بدء الاحتلال؛ هذه التصفية الجماعية لعلماء العراق وأساتذته ليست سوى وجه واحد من وجوه محنة قاسية مؤلمة يعيشها أساتذة العراق اليوم، وتعيشها جامعاته ومؤسساته الأكاديمية التي كان يشار إليها بالبنان. أما د.محمود بركات رئيس هيئة الطاقة الذرية العربية السابق، فيشير إلى أنَّ الاغتيال المعنوي الذي تعرَّض له هؤلاء العلماء، دمرهم من الداخل، من حصار طويل عليهم، ونقص الأدوية والرعاية الطبية، ومعظمهم في سن تجاوز الخمسين؛ ممَّا عرَّضهم للإصابة بالذبحات والجلطات، وأنه شخصيًّا يعرف أربعة من أهمِّ رجال المفاعلات العراقية ماتوا بسبب نقص الأدوية، وهناك آلاف ممن تعرضوا للاغتيال المعنوي النفسي، ووصل بهم الأمر لدرجة أنهم لجأوا لبيع مراجعهم وكتبهم للحصول على ثمن الدواء، واضطر آخرون لترك العلم، والعمل في مجالات أخرى من أجل الحصول علي القوت اليومي.

إنَّ رحيل البروفيسور حازم الدراجي بتلك الطريقة الغامضة لن يكون الأخير لأيِّ عالم عراقي أو عربي؛ لأنَّ الهدف كان القضاء على الصرح العلمي العراقي الذي ضم آلاف العلماء، ضمن مدرسة علمية متفردة ومتعددة الجوانب في المجال الطبي والنووي والكيماوي والبيولوجي، وكان الهدف أيضاً هو القضاء علي المشروع الوطني العراقي، الذي سعي لتسخير العلم بهدف الحفاظ على الأمن القومي العربي، ولأنه يتعارض مع مصلحة إسرائيل، ولأنه يُتيح الفرصة للاعتماد على النفس وعدم التبعية للغرب؛ فكان من الضروري -حسب رأي د. محمود بركات- العمل علي إنهائه حتى لا يخرج عن المنظومة التي رسمتها أمريكا لمشروعها لدعم حليفتها إسرائيل؛ وليس أدل على ذلك من تصريح كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، عندما قالت "إنّ القضاء على نظام صدام حسين أسهم في توفير الحماية والأمن لإسرائيل".

قد يَسْأل البعض: هل على العرب أن يتركوا الاهتمام بالعلم والعلماء إذا كانت هذه هي النتيجة؟ والجواب بالتأكيد لا. فعندما تكون أنظمة الحكم وطنية وتسعى إلى العلم وتهتم بالعلماء وتوفر لهم كلَّ سبل النجاح العلمية والعملية والحياتية، ويكون هناك هدفٌ وطنيٌ واضحُ المعالم وفق خطط مدروسة، فإنَّ ذلك كفيل بإنجاحه، أما إذا كانت الأمة تعيش على خلافات الماضي، ويتقاتل أبناؤها بسبب خلاف صار له أكثر من ألف عام فهذا ما يريده أعداؤها. والمؤسف أنّ ما حدث لعلماء العراق هو انتكاسة علمية كبرى للعرب كلهم، فليس من السهل تكوين عدد كبير من العلماء مثلما فعل الرئيس صدام حسين والنظام العراقي عامة، فتلك تُعتبر أهمِّ مناقبه، رغم الأخطاء الكثيرة والمميتة. وما حصل للعراق لم يكن استهدافاً لشخص صدام حسين بقدر ما كان هو استهداف لتدمير العراق ومشروعه القومي.