"تنفيذ": الثورة التكنولوجية وميلاد الصندوق العُماني للتكنولوجيا نموذجا

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

تحت رعاية مَعالي وزير التجارة والصناعة والأمين العام للمجلس الأعلى التخطيط، تمَّ الإعلان عن تدشين "الصندوق العُماني للتكنولوجيا" كجناح مهم من أجنحة "الصندوق العُماني للاستثمار"، ليستثمر في الجامعات الراقية والمرموقة في العالم والتي تمتلك "براءات اختراع" مثل جامعتي أوكسفورد وكمبريدج، إضافة إلى نقل التقنية والمعرفة إلى عُمان وتوطينها من خلال الاستثمار في شركات عملاقة والولوج في الثورة الرقمية والتكنولوجية غير المسبوقة في تاريخ البشرية التي تجتاح العالم المُتقدم، والمساهمة في بناء المعرفة الوطنية للاستثمار وتنويع مصادر الدخل وتحقيق عوائد مرتفعة من أجل الاستدامة..

ومن دون الدخول في تفاصيل أخرى، فإنّ الثورة التكنولوجية الجديدة التي تكتسح العالم، تمثل بداية حقبة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ البشرية والتي سوف تؤدي إلى إحداث تغييرات واسعة في أنماط الحياة والعادات وفرص العمل والإنتاج مثلما فعلت الآلة البخارية والكهرباء عند قيام الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وامتداداتها في أوروبا وبعد ذلك في العالم.

في تلك الفترة بدأت الدولة الرائدة، بريطانيا، باختراع المُحركات البخارية التي تعمل بالحرارة "جيمس واط 1736- 1819،" ومن خلال مكائن معينة، والتي سرعان ما تحولت إلى آلات سريعة ومُنتظمة ولا تعرف الكلل شريطة أن يتم تزويدها بالفحم الحجري والصيانة اللازمة.

كل المشاريع قبل تلك الفترة ومن ضمنها السفن البحرية، كانت بطريقة أو أخرى مشروعات متفردة وغير منتظمة ومعرضة لأنواع شتى من العثرات. أما في نظام المصنع، فالحال مختلف. كان يتم تجميع العمال، ويطلب إليهم أن يعملوا بطريقة ثابتة طبقًا لإيقاع الآلة، وكان العمال يتلقون أجورهم محسوبة على أساس عدد الساعات التي قضوها في العمل. وهكذا فإن الإخفاق في محاكاة الممارسات البريطانية بدت مشكلة كبيرة، بحد ذاته، أما النجاح في محاكاة تلك المُمارسات فقد كان ينطوي على تغييرات عميقة في أنماط الحياة والعمل والرزق. وهكذا فإنَّ محاكاة التجربة في القارة الأوروبية وبعد ذلك في الولايات المتحدة ساهمت في تشكيل العالم المتقدم.

والثورة التكنولوجية التي تكتسح العالم هي ثورة غير مسبوقة، وتختلف عن الثورة الصناعية الأولى والثورة الصناعية الثانية. فالثورة الثالثة والتي ستليها، تعتمد على المعرفة العلمية المتقدمة والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة. وحجم المعرفة سيتضاعف في عدد قليل من السنين، وتكاد تكون مساوية أو تزيد عمَّا تراكم من معرفة إنسانية منذ بداية البشرية.

وهذه الثورة تختلف عن الثورتين الصناعيتين الأوليتين في عدد من الوجوه. فبينما كانت الأولى تعتمد على البخار والميكانيكا والفحم والحديد وعلى الرأس مال العصامي وعلى قوة الدولة العسكرية المُباشرة لتأمين المواد الخام وفتح الأسواق من خلال الاحتلال العسكري السافر، كانت الثانية تعتمد على الكهرباء والنفط والطاقة النووية وفن الإدارة الحديثة والشركات الوطنية المساهمة، فإن الثورة الثالثة تعتمد أساسًا على العقل البشري والإلكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية والذكاء الصناعي وتوليد المعلومات حول كل شؤون الأفراد والمجتمعات والطبيعة واختزان المعلومات واستردادها وتوصيلها بسرعة متناهية بل آنية، وكذلك على الاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة.

ولأنَّ العقل البشري وليس القوة العضلية أو الميكانيكية، هو العماد الأول لهذه الثورة، ولأنه يمثل طاقة متجددة لا تنضب، فإنّ الثورة التكنولوجية الثالثة، سوف لن تكون حكرًا على المجتمعات الكبيرة المساحة والضخامة السكان، أو الغنية بمواردها الأوليةً أو القوية بجيوشها التقليدية. بل إنها ثورة يمكن لجميع شعوب العالم أن تخوض غمارها - سواء أكانت كبيرة أو صغيرة إذا ما حسنت إعداد أبنائها تربوياً وتعليميًا وتدريبياً لذلك. والدليل على ذلك ما حققته سنغافورة مثلاً المتناهية الصغر في المساحة وعديمة الموارد الطبيعة ولكنها قدرت استثمار وتطويع وبأسلوب علمي صحيح مواردها البشرية المتاحة مما مكنها من أن تكون على قائمة الدول الخمسة الأولى في العالم في ثورة المعلوماتية التكنولوجية.

 وإذا لم نتمكن من استيعاب تكنولوجيا العالم المُتقدم فإنّها سوف تنطوي على أذى كبير لنا لأنها سوف تحيل معظم الأنشطة الاقتصادية والوظائف الحالية إلى مشروعات لا جدوى منها. وإذا لم نتدارك الأمور فإنّ التكنولوجيا الحديثة سوف تكون عبئاً ثقيلاً على كاهلنا، وبالعكس فإنها سوف تنطوي على منفعة كبيرة لنا، إذا تمكنا من استيعابها وتوطينها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح. وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية سوف تلعبان دورا كبيرا في تحديد قدراتنا على مواجهة التحولات التكنولوجية الحاصلة والتي ستحصل غدا وبعد غد. ولذلك فإنَّ الحكومة الموقرة وأدواتها المختلفة ما هي إلا عنصر من عناصر النجاح وعلى الجهات المسؤولة عن التعليم والتدريب، ضمان مهارات التعلم والتدريب والانطلاق المعرفي المستمر، وضرورة قبول الأخطاء لأن المنهج التجريبي يقتضي الخطأ والولوج من خلاله إلى النجاح. ولولا ذلك لما نجح الغرب، بدلاً من حشو عقل الإنسان الصغير بمعلومات تجاوزها العلم والزمن. كما على المجتمع والأسرة أيضاً زرع قيم العمل والصبر والمثابرة والآناة في أبنائهم لأنَّ المستقبل هو لأؤلئك الذين عملوا ومنحوا أنفسهم فرصة التجربة والخطأ واستفادوا من تلك التجارب، وكذلك الذين شجعوا أبناءهم على الإبداع والابتكار من خلال الاستفادة من الثورة التكنولوجية.

إنّ التاريخ يجيء دائماً ليُقدم قوائمه بالفائزين والخاسرين ذلك أنّ التغييرات الاقتصادية والتطورات التكنولوجية، شأنها شأن الحروب والدورات الرياضية، لا تنطوي في العادة على منفعة لجميع الأطراف. إن من ينتفع بالتقدم هي الجماعات والأمم التي غدت قادرة على تسخير العلوم والتكنولوجيا والوسائل الحديثة لمصلحتها، فيما لحق الضرر بالأمم والأوطان الأخرى الأقل استعدادًا للاستجابة للمتغيرات التكنولوجية والثقافية والعلمية والتدريبية .

نأمل أن الصندوق العُماني الوليد للتكنولوجيا سوف يكون نموذجاً لما نأمله وأن يكون له مساهمة إيجابية في ذلك الاتجاه لما فيه مصلحة وطننا الحبيب وأبناء هذا الشعب الكريم. والله الموفق.