إضاءة

نعم.. نحن دولة غامضة!!

 

 

مسعود الحمداني

 

(1)

نعم.. نحن "دولة غامضة"، كما يَصِفُها البعضُ من المنظِّرين، والكتبة المأجورين، لا ننزعج من هذا التوصيف؛ لأننا فعلا دولة لا يكاد يفهم صمتها وسياستها حتى الدول المجاورة؛ لذلك نعيش في الواقع الآخر من القمر، في النصف المضيء بالنسبة لنا، وفي النصف المظلم بالنسبة لغيرنا، هذا قدرنا الأزلي؛ لأننا لا نستطيع تغيير الجغرافيا، ولا نستطيع أن نستورد جيرانا جددا، ولا يمكن لنا أن نحمل خارطة بلادنا ونتوجه للقطب الشمالي لنعيش هناك بعيدا عن الضوضاء والضجيج.. هذا قدرنا أن نكون في هذه البقعة المضطربة من العالم، ونحن راضون بهذا القدر، ونتعايش معه بحكمة، ولا يستفزنا المتنطعون وباعة القضايا والفتن الجائلون.

 

(2)

لا يُزعجنا أن سياستنا الخارجية تجنح إلى السلم، ولا يضعضع ثقتنا في أنفسنا بعض الكتبة الذين يأتمرون بأوامر "القيادات العليا"، ولا تهزنا ريح المشككين في نوايانا، وسياساتنا، ولا نعير اهتماما لأولئك البائسين الذين أدخلوا شعوبهم في مستنقعات لا أول لها ولا آخر؛ لأنهم اعتقدوا أن القوة هي السبيل الأوحد للتغيير، وأن الحكمة ضعف واستسلام، وها هم يحصدون اليوم ما زرعت أيديهم بالأمس، رغم كل الإعلام المضلل الذي يحشدونه لقلب الحقائق، وتصوير بطولات واهية ووهمية، ولسنا من أولئك الذين يحسبون كل صيحةٍ عليهم، ويعتقدون أنَّ العالم يتآمر على بلدانهم، ويجلسون في الظل ليبكوا الأطلال، وكلما عطست إيران لملموا "بشوتهم"، وهرعوا إلى واشنطن ليقفوا على أبوابها كي تنقذهم من البعبع القادم، و"البعبع" يعمل بصمت، وسياسة نفسٍ طويل، ولا يقلقه كل ذلك الصياح؛ لأنه بنى نفسه بنفسه، في الوقت الذي أهدرت دول أخرى مواردها على إنقاذ اقتصاد أمريكا وغيرها، ونسيت أن تعتمد على مواردها وذاتها، حتى وقع الفأس في الرأس، ورغم كل شيء فعلى الجيران أن لا يقلقوا من صمتنا وحكمتنا فنحن كالذئاب لا ننام إلا وأعيننا مفتوحة.

 

(3)

نعم.. نحن "دولة غامضة"، لا ترى العالم بعيون الآخرين، ولسنا إمَّعة نتبع كل منادٍ إلى الجحيم، ولا ننجر خلف سياسات "القطة الخبيثة" التي تخوِّف أولادها الصغار من القط الكبير، ثم تلتهمهم واحدا واحدا، ولسنا دولة توسعية تأخذ من الأطراف، كي تزيد مساحة الصحراء لديها، ولم نكن مغتصبي أراضٍ بل أعطينا الجيران من ترابنا -حين ترسيم الحدود- لأننا أيقنّا أن الإنسان أهم من التراب، واعتقدنا بعمقٍ أننا شعب واحد، وآمنّا بأن السلام أهم من صخرةٍ على جبل، أو تلةٍ في صحراء، أو حتى حقل نفط غير ذي جدوى.

 

(4)

نعم.. نحن "دولة غامضة" في أذهان بعض جيراننا؛ لأنَّ تاريخنا غير مقروء لديهم، ولأنَّ المذهبية والقبلية معنا ذابت في الوطنية الخالصة، ولم نترك لأولئك "المتمذهبين" فرصة للتغلغل في دمائنا، والاقتيات على عقول العامة، ولم نشعل الطائفية لنضرب بها المتعصبين، ولم نحرِّك العواطف لنكسب قلوب فئة دون فئة، ولم نجيِّش الخطاب الديني لابتزاز البسطاء من الناس كي نتحكم في مقاليد السلطة المطلقة، ولم نهمِّش الأقليات لأن المواطنين سواسية في ميزان الدولة.

 

(5)

نعم.. نحن "دولة غامضة"، فمجلس التعاون الذي نحن جزء منه يرفض أن ينضج، انتسبنا إليه وأسسناه لأننا آمنَّا بأن القوة في الاتحاد، وأن الواحد للجميع، والجميع للواحد، ولكن على امتداد سنوات عجاف ها نحن أمام واقع لم نكن نخطط له، وصار المجلس مجرد "سبلةٍ" سنوية تخرج بالقرارات التي لا تنفَّذ، والشجب والتنديد الذي لا يقدِّم ولا يؤخِّر، وصار البعض يوجهه نحو أجندة سياسية لا علاقة للشعوب بها، ويحرِّكه كقطع الشطرنج في معارك خاسرة لا ناقة له فيها ولا جمل، وبعد هذا كله يأتي من "يمُنَّ" علينا بنعمة وجودنا في المجلس، ونسي أننا الخاصرة الأقوى، وأننا البُعد الإستراتيجي لكل الدول المجاورة، وأنه لكي تبقى دول المجلس آمنة مستقرة يجب في المقابل أن تبقى عمان "صقر السلام" الذي ينقذ ماء وجه البعض حين يورط نفسه في لجج الحرب والاضطرابات، وأن تبقى السلطنة عنصر الاستقرار والتوازن في المنطقة؛ لأن القاعدة المنطقية تقول: "إنه لا بد أن يبقى عاقل واحد في المسرح على الأقل حين يجتاح الجنون الآخرين"، ونحن ارتضينا أن نلعب هذا الدور "الغامض" والثابت الذي لا يمكن لجاهلٍ أن يستوعبه بسهولة.

Samawat2004@live.com