المعلِّم أولا..!

 

 

هلال الزيدي

التعليمُ أساسُ التحضر، والمعلمُ جوهر الأساس الذي يبني الأمم، فلولا المعلم لما خطَّت أيادينا حرفا، ولولا المعلم لما تقدمت الشعوب لتتغلب على الفقر والمرض، ولولا المعلم لما استطعنا أن نكون ضمن المنظومة الإنسانية لنختلف عن الكائنات الحية الأخرى، ولولا هيبة المعلم لما حافظت الأوطان على أمجاد التاريخ، ولولا المعلم لما كانت هناك مدرسة تتطور مع تطور العقل الذي شكله المعلم، ولولا صرامة المعلم لما التزم الطالب في مقعده ليتربى على أسس الأخلاق ومن ثم يتعلم ليكون قائدا يبني الوطن.

ما زلتُ أتذكرُ جيداً عندما كان سائقُ الحافلة يُسهم في العملية التربوية؛ لأن "ولي الأمر" كان يوصيه بابنه تأنيبا وتأديبا، وما زلتُ أتذكرُ جيداً عندما كانت توصي الأم المعلمة بابنتها قتقول: "البنت في تصرفك مع إبقاء العينين فقط"، وما زلتُ أتذكرُ جيداً عندما يمر المعلم بجلال هيبته ووقاره كيف كانت فرائصنا ترتعد.. أتدرون لماذا كنا كذلك؟ لأن التعليم كان مربوطًا بالتربية، والبساطة هي المكون الرئيسي في تعامل الأب مع ابنه والمعلم مع الطالب، كما أن هناك قناعة تامة بواجب المعلم ومكانته؛ حيث يُعدُّ شريكاً مع الأب والأم في تكوين الطالب داخل المدرسة وخارجها؛ لذا كان الضرب هو العقاب الذي حقق تربية صالحة وأنتج أجيالا أقبلت على التعليم بنهم؛ لذلك ها هي نراها تتبوأ مناصب قيادية عليا في البلد.

جميعنا يُسلم بضرورة وجود قوانين تُنظم حياة البشر مع بعضهم البعض، مع التأكيد على أن فاعلية أي قانون تكون بوجود العقوبة الرادعة التي تجعله قويا؛ لذا ومع اللغط الكبير الذي شهدته الساحة المجتمعية بشأن تطبيق قرار منع الضرب وطرد الطالب من قاعة الدرس، فإنني أجد نفسي في الوسط أي لستُ مع تحييد وتقييد سبل التربية المرتبطة بالتعليم، كما أنَّني لستُ مع إطلاقها بالمطلق حتى لا تتضرر مكونات المنظومة التعليمية، وذلك حافظا على مكانة المعلم وأهميتة في المجتمع مع إيجاد حافزا ماديا ومعنويا للطلاب في تلقي المعرفة بجدية تامة ومرتبطة كذلك بالعقوبة التي تجعل من الطالب "الإنسان" ملتزما بقواعد السلوك لأي بيئة كانت.

إنَّ فكرة منع الضرب والطرد تؤثر تأثيرا سلبيا على الطرق التي يجب أن يتعامل معها المعلم تجاه خليط من الأفكار والسلوكيات والظروف التي تكون شخصية الطالب؛ فمع الأعداد الكبيرة التي تتكوم في قاعة الصف باختلاف بيئاتهم، نأتي ونقول للمعلم عليك أن لا تضرب الطالب أو تأنبه، وذلك حتى لا تتأذى (أي المعلم) من فرط "الدلع " الكبير الذي يكنه الأب والأم لابنهم أو بنتهم، فيتجهون لرفع قضية في المحاكم ضدك، ومنها تتلوث سمعة المعلم بسبب تأنيبه للطالب قولا أو فعلا، وبالتالي دعه يسرح ويمرح كيفما شاء، مع ضرورة معاقبة المعلم وتأنيبه من قبل المسؤولين إذا اتضح أن هناك طلابا غير متعلمين أي غير قادرين على طلب العلم؛ فلماذا هذا التناقض الغريب؟

إنَّ صناعة الفشل -أو بالأصح صناعة طالب فاشل لا يتحمل المسؤولية- تبدأ من الأسرة، وتمر بالمعلم الذي يستقبل العبء الأكبر في هذا الفشل؛ لأنه الملام الأول في تدني مستويات الطلاب التي تشهده المؤسسة التعليمية، كما أنه السبب الرئيس في تبني الطالب لسلوكيات غريبة في إطار بيئته؛ لأنَّ المدرسة هي من علمته ذلك. وفي مقابل هذه الاتهامات المتكررة والظروف الصعبة التي يعمل فيها المعلم، نسلط عليه سيفا آخر وهو عليك أن تصمت في حضور الطالب حتى لا تكون في قفص الاتهام.

إذا كنا نسأل عن حقوق الطفل والاتفاقيات الدولية، هناك حقوق قوية سنتها الشريعة الإسلامية قبل 14 قرنا وتحث على تربية الأبناء التربية الصالحة، وقد ورد ذكر الضرب بمفهومه العام في أحاديث نبوية من أجل حث الطفل على الالتزام بالقوانين الربانية والقوانين الوضعية، وهذا ما يتضح في الحديث الشريف الذي يدعو إلى حث الأبناء وتوجيههم لإقامة الصلاة؛ حيث قال رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ"، والضرب الذي أدعو إليه هو الضرب غير المبرح والهادف للتأديب والتربية، والذي عرفناه في أيامنا.

إنَّ الدول العظمى وما حقققته من نجاحات يشهد لها العالم لم تكن إلا بقوة المعلم ومكانته التي أسستها على منهج سليم؛ فالتعليم أيها المسؤولون لا يعتبر وظيفة محدودة بساعات عمل، وإنما فقه إنساني وقيم سلوكية يمتهنها الإنسان لخدمة المجتمع، ولا تقتصر بين أسوار المدرسة بل تتعداها إلى كل ظل شجرة، ومهما كان الحافز للمعلم فإنه قليل جدا في واقعنا اليوم، ولم يميز المعلم بأي شيء، فلماذا نُجرده من أسس التعليم التي يتبعها لمصلحة الأجيال؟

نحن بحاجة ماسة إلى المعلم الإنسان، والطالب الإنسان، فكيف يمكن لهذين العنصرين أن يصنعا منهاجا تربويا مشتركا وبينها علاقة تحدٍ، وعدم احترام واللامبالاة؟ فلو قويت شوكة المعلم لاستطعنا تجاوز الكثير من العقبات، لأنه هو من يعرف كيف يتعامل مع كل الضغوطات التي تتشكل أمامه يوميا ابتداءً من حافلة المدرسة وباحتها مرورا بطابور الصباح ثم قاعة الدرس ثم العقول التي تعتقد بأن المدرسة مجرد مكان لقضاء وقت الفراغ فيه بعيدا عن البيوت، لذلك علينا أن نتحد لنقف معا، لا أن نلقي باللائمة على المعلم في كل شيء؛ لأن الواقع يقول بأن هناك تناقصا كبيرا في رغبات مخرجات الدبلوم العام في أن يكونوا معلمين، يا جماعة لا تجعلوا مهنة المعلم وضيعة بكثرة المحددات، دعوها قوية وشدوا من أزرها حتى يكون الناتج سليما وصالحا، والدعوة إلى الضرب التأنيبي والتأديبي يأتي ضمن سلسلة تربوية من الضروري أن يتعهد ولي الأمر بتطبيقها وتكون عقدا ملزما للطرفين يوقع بداية كل عام لكل طالب.

-------------------------

همسة:

إلى من يُجرم عقاب الضرب في المدرسة، عليك أن تجرمه كذلك في بيتك (مع ابنك أو ابنتك أو اختك أو زوجتك)، كما عليك أن تأخذ ليوم واحد فقط ابنك أو ابنتك في جولة على ما درسه وتُناقشه وتسأله لترى مدى استيعابه (فقط واحد منهم)، مع ضرورة وضع جهاز قياس الضغط بجانبك، فهل يا ترى تحتاج إلى "العصا"؟.. تأكدوا أنَّ كل مكوِّن يحتاج إلى ثوابت، فإن دمرنا الثوابت فسد الناتج.

 

abuzaidi2007@hotmail.com

 

* كاتبٌ وإعلامي