تستضيفها دار الأوبرا الخميس والسبت

أوبرا "لوهنجرين" لفاجنر.. العشق والتضحية و"السؤال المحرّم"

 

 

 

 

لم تعرف الأوبرا في تاريخها مؤلفًا ترك بصمة وأثارت حياته وأعماله جدلاً كريتشارد فاجنر

 

مقدّمة الفصل الثالث أحد أشهر المقطوعات الأوبرالية ومعزوفة تؤدى في الحفلات الموسيقية بشكل مستقل

 

دكتور ناصر الطائي*

تستضيف دار الأوبرا السلطانية مسقط يومي الخميس والسبت 20 و 22 أكتوبر الجاري الأوبرا الدرامية "لوهنجرين"، للمؤلف والموسيقار الألماني الشهير ريتشارد فاجنر وهي من إنتاج مهرجان ريتشارد فاجنر في النمسا، والذي يُعنى بتقديم أعمال الموسيقار ويحتفى بها سنوياً. وتقدم العمل الأوركسترا السلوفاكية الفيلهارمونية بمشاركة الجوقة السلوفاكية الفيلهارمونية ويشارك في بطولة العمل التينور الآيسلندي يون كيتلسون، والميزوسوبرانو الألمانية ليونا براون، ويقود الأوركسترا في العرض القائد الموسيقي النمساوي رالف فايكيرت.

"رائعتك لوهنجرين عملٌ ساحرٌ من بدايته حتى نهايته. ففي مقاطع كثيرة منها انفطر قلبي وسالت دموعي من شدة التأثر. فالأوبرا بأكملها عملٌ مذهلٌ واحدٌ لا يتجزأ، ويستحيل عليّ أن أفصل هذه السمة أو هذه التركيبة عن تلك أو هذا الأثر عن ذاك".


* فرانز ليست.

لم تعرف الأوبرا في تاريخها مؤلفًا ترك بصمة وأثارت حياته وأعماله جدلاً كريتشارد فاجنر (1813-1881). فقد كان مفهوم "العمل الفنّي المتكامل" الذي أدخله فاجنر إلى عالم الأوبرا مفهومًا ثوريًا بالفعل وسعى إلى إعادة الأوبرا إلى هدفها الأسمى كمصدر للإلهام الفنّي في اسمى مراتبه. وتعيّن على فاجنر لتحقيق ذلك أن يعيد ابتكار المفاهيم من جميع أسسها وهو ما أمل أن يحققه في مسرح خاص صمّمه ووضع رؤيته بنفسه في مدينة بايروث. فقد عمل فاجنر على رفع شأن الأوبرا كما كان أثر بيتهوفن على السيمفونية، فنجح بذلك في تحويلها إلى نوعٍ جديد يدعى "الموسيقى الدرامية".

وقد عبّر فاجنر عن آرائه حول الموسيقى الدرامية في كتابه المبتكر "الأوبرا والدراما" (1851) الذي قدّم فيه مفاهيم عدّة لأعماله الدرامية الأسطورية ومنها مصطلحات "الموسيقى الدرامية" و"العمل الفنّي المتكامل" و"اللحن الدال" و"اللحن الأبدي". وباتت هذه المصطلحات مرتبطة بمفهوم فاجنر لأعماله وتبلورت أخيرًا في ملحمته "خاتم النيبلونغ" بعد ذلك بسنوات عدّة. فأتت النتيجة عملاً فنّيًا فريدًا من نوعه مترابطًا ومتواصلًا في جميع تفاصيله. فالنغم الأبدي يُغنى فيه نصٌ حرّ بأسلوب الإلقاء الملحّن الذي يصاحبه عزف أو أسلوب الإلقاء السردي من دون التقسيم التقليدي بين الالقاء المنغم والأغنية. وبالمثل قد رفع فاجنر مستوى الدور الذي تلعبه الأوركسترا من مجرّد أداء موسيقي مصاحب إلى مستوى موازٍ للصوت عبر عزف شبكة سيمفونية من الألحان الدالة التي تعبّر عن المعنى الدرامي والسيكولوجي للشخصيات. ويتداخل النصّ مع الموسيقى ليعززا وقع الدراما الموسيقية في قالب جديد ومتكامل.

غير أنه يمكن استشعار بعض ملامح أسلوب فاجنر الثوري هذا في أوبرا "الهولندي الطائر" (1849) حيث فسّر مقاربته على الشكل التالي:

"أذكر أنني قبل أن أبدأ بكتابة "الهولندي الطائر"، وضعت تصوّرًا لأغنية "سينتا" السردية في الفصل الثاني وألّفت النصّ والموسيقى. ووضعت في هذه المقطوعة عن غير وعي نواة موسيقى الأوبرا بأكملها... وعندما شرعت في تطبيق ما ألفته بدأت صورة الأفكار الرئيسية للعمل تتضح أمامي عن غير قصد وتتجلى أمام عيناي كشبكة متكاملة تشمل الدراما بأكملها".

استخدم فاجنر عبارتي "عن غير وعي" و"عن غير قصد" للدلالة على عملية التأليف التي تحدث بشكل طبيعي وتلقائي غير مقصود أو متعمد وغير مبني على أسس سابقة، بل إنه عضوي ويتطوّر ويتفاعل مع الدراما ذاتها.

 

تكوين "لوهنجرين"

كتب فاجنر أوبرا "لوهنجرين" في حقبة من الاضطراب السياسي والفني في ألمانيا. فقد تعرّف للمرّة الأولى على أسطورة "الكأس المقدّسة" في بداية أربعينيات القرن التاسع عشر وتعمّق فيها بحلول منتصف ذلك العقد. وأنجز فاجنر عام 1846 مسودة النص الأوبرالي وأكمل موسيقى الأوبرا لـ "لوهنجرين" عام 1848. لكن في عام 1850 وبعد مشاركته في محاولة الثورة الفاشلة، نُفي إلى سويسرا ولم يحضر العرض الأول في فايمار في 28 أغسطس من العام نفسه حين قاد فرانز ليست الأوركسترا. ولم يشاهد فاجنر رائعته هذه حتى عام 1861 عندما عرضت في فيينا.

"لوهنجرين" أوبرا رومانسية مثلها مثل أوبرا "الهولندي الطائر"، كتبها فاجنر قبل نشره لكتاب "الأوبرا والدراما"، وترتكز على "السؤال المحرّم" ويعود تاريخ أحداثها إلى حقبة ما قبل المسيحية حين يخسر "لوهنجرين" قواه السحرية عندما يجبر على الكشف عن هويته. تدور الحبكة حول إخلاص امرأة وفية يتعيّن عليها أن تؤمن به من دون أن تعرف اسمه أو موطنه "لكنها تحبّه كما هو لأنه لم يكن مختلفًا عمّا بدا عليه" بحسب فاجنر. فالفكرة الرئيسية الأبرز في القصة هي الحبّ النقيّ والمطلق وغير المشروط الذي يخلصه من عزلته ويعتقه من قوى الشعوذة والخرافة السوداوية. ويشكّل هذا التحدّي في المنظور الرومانسي التحدّي الأكبر لـ"إلسا" محبوبة "لوهنجرين"، في حين أنّه، كما في "الهولندي الطائر" قبله، سيبقى أسير العزلة والمنفى الأزلي من العالم إن لم يجد الحبّ الحقيقي.

أما على مستوى الموسيقي، تمثّل أوبرا "لوهنجرين"نقطة تحوّل في مسعى فاجنر لإرساء أسس الدراما الموسيقية، إذ تمخّض عن استمرارية الدراما وتوزيعها الأوركسترالي السيمفوني نوعًا جديدًا من الموسيقى الدرامية التي تتشبع بها الدراما بأكملها. فمثل أغنية "سينتا" السردية في "الهولندي الطائر"، شكّل موضوع "لوهنجرين" النواة التي توحّد الدراما، وبكلمات فاجنر نفسه:

"لم يكن أمامي هذه المرة عمل موسيقي كامل مثل الأغنية السردية، لكنني أولاً شكّلت الصورة حيث بدت خطوط المحاور الرئيسية تتجمّع بينما كنت أبني المشاهد ونمت وتولدّت بشكل عضوي من رحم بعضها البعض، ثم تركتها تنكشف في كل مكان يلزم أن تظهر فيه لتسهيل فهم الموقف الرئيسي".

ويشير فاجنر هنا أيضًا إلى مفهوم "النمو العضوي" كعملية جوهرية في اسلوبه الكتابي ينحو نحو الاستمرارية الموسيقية والدراما المتلاحمة.

 

السرد الموسيقي الدرامي في "لوهنجرين"

تحتفي أوبرا "لوهنجرين" لفاجنر بالقومية الألمانية وتركّز ضمن هذا الإطار في فكرتها الرئيسية على المفاهيم الرومانسية للحبّ والتضحية والخلاص التي تعدّ جميعًا مواضيع مألوفة للجمهور الألماني في القرن التاسع عشر. وتُميّز موسيقاها بوضوح بين الضرورة الملحّة لتوحيد القوات الألمانية لمواجهة القوى الهنغارية (صوت الآلات النحاسية العالي والحماسي) وبين هشاشة شخصية "إلسا" العاطفية (صوت آلات النفخ الحساسة).

تعرض الافتتاحية تصويرًا شعريًا لفكرة رئيسية واحدة مستمرة بمصاحبة العزف المنفرد على الكمان وجوقة من آلات الفلوت والأوبوا. كما تمثّل الافتتاحية بحسب فاجنر نزول الملائكة من الجنّة حاملين الكأس المقدّسة وعودتهم إليها. فتمدّنا الآلات الوترية الهادئة والناعمة بإحساس من السكينة والروحانية ثم تُفتح السماء لنزول الملائكة في حدث عجائبي غامض. وتضفي آلات النفخ لونًا متباينًا يزيد من الشعور بالترقّب. ويمثّل دخول الآلات النحاسية مع التمباني قمّة الإثارة لحظة وصول الملائكة قبل أن تعود الآلات الوترية لتختم المشهد. تعتبر الافتتاحية وصلة واحدة غير منقطعة تسلب الألباب وتطارد الخيال وتشدّ الأعصاب فهي بمثابة صرخة سماوية مزلزلة عن مشاكل البشرية على الأرض والحاجة الملحة للخلاص.

بالتالي فإن الافتتاحية رسم لصورة الجنة وهي تفتح أبوابها بالنقاء والروحانية التي تراها "إلسا". لكن الرؤية تزداد تعقيدًا من خلال صورة الفارس ("لوهنجرين") وهو ينزل من السماء لينقذ "إلسا" ويخلّصها من الافتراءات وتهمة القتل. وبذلك فإن الافتتاحية عبارة عن سرد روحي ومثير يلخص الدراما من خلال الموسيقى وحدها.

يُظهر فاجنر من خلال توظيفه للموسيقى في الدراما تباين القوى معتمدًا خطوطًا ثنائية، فنشهد في "لوهنجرين" على صراع بين الخاص والعام وبين العاطفي والعقلاني وبين الحميمية والغرور. كما تتناقض اللحظات الحميمية بين "إلسا" و"لوهنجرين" مع الأصوات الضخمة للجيش التي تعبّر عن القوة والشهامة. ويمثّل دخول الملك وحاشيته قوّة القومية الألمانية وتفوّقها، وبالطبع تعبّر الآلات النحاسية مع أصوات رجال الكورس عن التهليل والدعوة لامتشاق السلاح لتوحيد ألمانيا ضد الغزاة.

وفي تباين واضح يلحظه الجمهور، يؤدي افتتان "إلسا" الرومانسي بـ"لوهنجرين" إلى تمييزها عن الأدوار الأخرى عبر استخدام الموسيقى العاطفية والساحرة للأوركسترا. فتظهر "إلسا" على المسرح في الفصل الأول كفنانة رومانسية حالمة تهيم في حالة من النشوة وهي غافلة تمامًا عن الاتهام الذي يسوقه "تلراموند، كونت برابنت" ضدّها بقتل شقيقها "غوتفريد" وريث عرش دوقية برابنت ليصبح "تلراموند" وريثًا بدلًا منه.

تبث "أورترود" سمّها في المشهد الثاني، فتستمر موسيقاها بالطابع السوداوي المقيت وتستحضر الآلهة الوثنية في إحدى نوبات غضبها. يبرز فاجنر الصراع بين القوّتين عندما تشير "أورترود" إلى ظهور "لوهنجرين" الغامض وذلك من خلال التباين الواضح بين النغمات المتآلفة التنازلية المنبعثة من آلة الباسون والمصاحبة لـ"أورترود" ولحن "السؤال المحرّم". لا يمكن للتباين أن يكون أوضح من الذي بين "إلسا" و"أورترود"، فالأولى مسالمة، ملائكية، وسماوية والثانية مشعوذة، شريرة، وناقمة.

تستمر المواجهة في المشهد الرابع فيما تسير "إلسا" نحو موكب زفافها، وتظهر "أورترود" مجددًا محدثة اهتياجًا مشؤومًا تصاحبها النغمات المتآلفة التنازلية المنخفضة. أما "إلسا" فتصاحبها نغمات فرقة آلات النفخ المخصصة لها ضمن الأوركسترا. ويظهر لوهنجرين محاولاً أن يعزيها ولكنه يراها مشوّشة الفكر وقد تزعزعت ثقتها بنفسها. بعد ذلك يتّهم "تلراموند" "لوهنجرين" بالشعوذة لكن موكب الزفاف يستمر ليصل إلى خاتمة سعيدة ولافتة للنظر.

تعتبر مقدّمة الفصل الثالث أحد أشهر المقطوعات الأوبرالية وباتت معزوفة تؤدى في الحفلات الموسيقية بشكل مستقل. ترتفع الستارة كاشفة عن مارش الزفاف الشهير "ها قد أتت العروس!"، وتسير "إلسا" برفقة السيدات و"لوهنجرين" برفقة الملك والنبلاء. ولسخرية القدر، يشاء لهذه المعزوفة المؤلفة لزواج محكوم عليه بالفشل أن تغدو اللحن الأكثر شيوعًا في الأعراس حول العالم!

ويراود "إلسا" الفضول لمعرفة أصول "لوهنجرين" في لحظة من الشوق الكبير، فيذكّرها "لوهنجرين" أنه تخلى عن المجد لأجلها لكنّها مصّرة. عندئذ نسمع لحن "أورترود" كإشارة تحذيرية من مصير "إلسا" المحتوم. فيفعل سمّ "أورترود" فعله وفيما يتعالى لحن "السؤال المحرّم" تنهار "إلسا" وتسأل "لوهنجرين" عن هويته الحقيقية. ويدخل "تلراموند" ومساعده الغرفة عنوةً فيطعنه "لوهنجرين".

يبلغ "لوهنجرين" الملك عند الفجر أنه لم يعد يستطيع قيادة جيشه ضد الغزاة وأنه قد قتل "تلراموند" دفاعًا عن النفس، ويوبخ "إلسا" لأنها نكثت بوعدها إليه وبات مجبرًا على الإفصاح عن اسمه وأصله. ويعود لحن الكأس المقدّسة الذي ظهر في المقدمة ليفتح الباب لقصّته "في بلاد بعيدة". وتتنقل الموسيقى من الروحانيات السماوية التي تظهر في صوت الأوتار المتمتمة إلى جبروت القصر الذي تحرسه الملائكة والنقاوة المتمثّلة في صوت الآلات النحاسية. تتوسل "إلسا" المغفرة لكن عبثًا فقوانين الكأس المقدّسة لا يمكن أن تتغيّر أو تلين. وتظهر بجعة تجرّ قاربًا فارغًا فيترك "لوهنجرين" سيفه وبوقه وخاتمه مع "إلسا" لتعطيها إلى "غوتفريد" إن عاد. تتدخل عندئذ "أورترود" وتدّعي أنها تعرف البجعة من القلادة حول عنقها. إنه "غوتفريد" الذي سحرته وضاع إلى الأبد.

تتعالى موسيقى الكأس المقدسة مجددًا، ويخرّ "لوهنجرين" على ركبتيه في صلاة صامتة فيما ترفرف حمامة بيضاء فوق القارب. يحرّر "لوهنجرين" البجعة التي تغرق ويحل محلّها جسد "غوتفريد" فيرفعه "لوهنجرين" معلنًا إياه دوق برابنت، وتشعر "إلسا" بفرح ممزوج بمرارة الفراق على فقدان "لوهنجرين" الذي يختفي في الأفق البعيد.

 

الرمزية في أوبرا "لوهنجرين"

تزخر دراما فاجنر إلى جانب موسيقاها الساحرة المؤثرة بطبقات معقّدة من الإيحاءات والرمزية. فتمثل "إلسا" محور افتتان فاجنر بقوى القدر وفكرة تفاني المرأة وإخلاصها التام. وتشكّل هذه المفاهيم امتدادًا لتركيز بيتهوفن على مواضيع مشابهة في عمله الأوبرالي الوحيد "فيديليو" (1807). فـ "إلسا" محكوم عليها منذ البداية أن تعاني قسوة "لوهنجرين" فلا تسأله عن اسمه وخلفيته بالإضافة إلى اضطرابها العاطفي.

وهي كأنثى أضعف من "لوهنجرين"، تعجز عن الدفاع عن نفسها ويسهل على الشريرة "أورترود" خداعها. مثلها مثل حواء، يتسبّب سوء حظّها وأخطاؤها في بؤسها وعذابها وشعورها بالذنب والعقاب للبشرية جمعاء. تمامًا كحواء تذوّقت "التفاحة المحرّمة" وذاقت عواقبها الوخيمة، وتحمّلت تبعات عدم قدرتها على مقاومة إغراء طرح "السؤال المحرّم". كما أنه يُطلب منها عن غير حقٍّ أن تثق في رجل تجهله تمامًا وتتزوّجه كما يطلب "لوهنجرين" استسلامها التام، وبذلك ترجّح كفة ميزان القوة لصالح "لوهنجرين" وعقاب "إلسا".

علاوة على ذلك، فإن قدرة "إلسا" على الحبّ وإبصار رؤى عبر صلواتها وتضرعاتها الحارة تضعها في مرتبة سامية. فهي رمز مثالي للشخص المعطاء الذي يضّحي بنفسه لأجل الآخرين. فتنتمي بطبيعتها الحالمة والرومانسية إلى عالم آخر يختلف عن عالمنا، عالم أكثر تسامحًا وإحسانًا وإنسانية. لكن فضائلها السامية توازيها نقاط ضعفها البشرية. فمع أنها تقاوم شعوذة "أورترود"، تبقى متأثرة بأفعالها الشريرة.

تجسّد "إلسا" حلم كل شاعر، فهي المرأة المثالية التي تحتضن الحبّ لغاية الحبّ الخالص وهي نبيلة ورومانسية وشغوفة وقد ترمز لكل ما هو صعب المنال وغير واقعي. فهي أيضًا في المفهوم الرومانسي للشاعر تمثّل قدره الأول والأخير ومصيره وخلاصه، لكنها تبقى في النهاية زهرة رقيقة تسحقها قوى الشر والظلام.

أما "لوهنجرين" فهو شخصية ملهمة وليس بقائد، فعلى الرغم من أنه يهزم الشرّ، لا يتولى مقاليد الحكم فدوره يقتصر على إعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي. يشبه دوره شخصية "الهولندي الطائر"، إذ إنه رمز للفنان الرومانسي المنفي والمنبوذ من قبل المجتمع (فاجنر) الذي قدّر له أن يجول باحثًا عن الحبّ الأزلي لأن المرأة التي يبحث عنها غير موجودة أصلا.

وترمز الكأس المقدسة تاريخيًا ككأس عجائبية إلى القوة والافتداء والخلاص والحبّ الذي سيحلّ على العالم. أما البجعة فهي شقيق "إلسا" التي لا تعي أن ثمة رابطا بينهما. غير أن الرابط الذي يجمع بين البجعة و"إلسا" و"أورترود" وثيق لأن الأخيرة هي من قتل "غوتفريد". فظهور البجعة في المشهدين الأول والأخير من الأوبرا يرسم إطار العمل ويضفى عليه وحدة درامية مبنية على خطيئة القتل الذي يتوجب القصاص والتدخل الرباني.

تمثّل "أورترود" قوّة الشرّ وتنتمي لعالم الوثنية والشعوذة والسحر الأسود. وقد عكس فاجنر في شخصية "أورترود" قرونًا من التعصّب ضدّ المرأة القوية وشهوتها للسلطة. إذ يسيطر على هذه الشخصية هوس الوصول إلى الحكم كشخصية الـ "لايدي ماكبث"، ويمكن وصف هذا الهوس "بالتعصّب القاتل" كما يقول فاجنر. إنها شريرةٌ لغاية الشرّ ولا تدرك في مسعاها المسموم لتدمير الآخرين انها تدمّر نفسها.

تبرز موسيقى "أورترود" من خلال أنغامها غير المتآلفة لآلات النفخ منخفضة الصوت والذي تعزّزه رجفات الآلات الوترية بمصاحبة الآلات النحاسية الخافتة والتي ترسم لوحة تشاؤميًة منذرًة بالسوء حيث يستقر الشرّ ويكشر عن أنيابه على النقيض من عالم "لوهنجرين" الملائكي، الهادئ والخيّر. فيبرز من خلال "لوهنجرين" التناقض الصارخ بين المرأة الشريرة والرجل الصالح. ولطالما أدان التاريخ الغربي النساء أمثال "أورترود" ويرجع ذلك إلى العصور الوسطى حين بلغت حملات إعدام اللواتي عقدن صفقة مع الشيطان نطاقًا غير مسبوق. فـ"أورترود" هنا تسخر من "إلسا" وتتآمر على "لوهنجرين" وتقّلل من شأن الآلهة.

*****

مثّلت أوبرا "لوهنجرين" مع أوبرا "الهولندي الطائر" تحولاً جذريًا عن الأعمال الأوبرالية التي عاصرتهما وغرست بذرة الأعمال الأوبرالية الثورية التالية للمؤلف نفسه كأوبرا "تريستان وإيزولده" و"رباعية الخاتم". فالموسيقى فيها مؤثّرة ومبتكرة وحيّة وسامية. كما يتميّز فاجنر بقدرته على رسم صور حيّة للصراع بين الخير والشرّ وبين الشهامة والحميمية وبين المواضيع الدنيوية والروحانية وتلك شهادة له على إبداعه الموسيقي وتأليفه الأوركسترالي الساحر المستمر والثوري.

طوّر فاجنر عبر استخدامه "للحن الدال" نظامًا قادرًا على تحويل نفسه سيمفونيًا وفق الطبيعة النفسية والدرامية للموقف الراهن في الدراما. فتدنو أوبرا "لوهنجرين" لفاجنر من السمو عبر قصّتها الرائعة وشخصياتها المركّبة وموسيقاها الرمزية القويّة. وتعتبر كسرد شعري رومانسيةً بلا حدود، فموضوعها الرئيسي يدور حول الإخلاص والحبّ كعاملين للخلاص والافتداء. يهيئ فاجنر هذه الأجواء الرومانسية السامية بدءًا من الافتتاحية التي تصوّر السماء وهي تفتح أبوابها في إشارة إلى نزول البطل النبيل للقاء عروسه واحتضان مصيره وقدره. لكن السمو والروحانية يقابلهما الشرّ والشعوذة على الأرض، مما لا يوفّر توازنًا في القصة فحسب بل أيضًا يؤخر التئام شمل العروس مع عريسها والروح مع مخلصها، ولو بصورة مؤقتة. هذه هي التفاعلات الديناميّة القويّة التي دعت الموسيقار الهنغاري فرانز ليست إلى القول أن "لوهنجرين"أوبرا ساحرة بجميع عناصرها من بدايتها إلى نهايتها.

 

 

* مستشار مجلس إدارة دار الأوبرا السلطانية مسقط

 

تعليق عبر الفيس بوك