ثوابت الحكمة العُمانيَّة

 

حاتم الطائي

يبقى الهدوء والاتزان والحكمة وسمًا أصيلا للسياسة الخارجية العُمانية، ومُؤصلا لحالةٍ دبلوماسيةٍ "نادرة" في عالم أرْهَقته الاختلافات والفتن، والانتماءات الأيديولوجية الضيقة. وكحلقة اتصالٍ سياسيٍّ مُستمر مع كافة الأطراف؛ حافظتْ عُمان على سياستها المتوازنة؛ فلم تنجر يومًا إلى تبني موقف انفعالي تؤيد به طرفًا أو تعادي به آخر، فكانت ضمانة ناجعة لتوجهٍ حكيمٍ وعنوانٍ دائمٍ لصناعة القرار السياسي الذي يُتيح فرصاً مُتعدِّدة للاختيارات الصائبة المتأنية التي تُتخذ بعد دراسة وتدقيق ومُراجعات وافية؛ وما هذه التحرُّكات والمساعي سوى تأطير لنهج أصيل تأسَّس على ثوابت نهضوية ومرتكزات سياسية، تستقي توجهاتها -على ما يقارب النصف قرن- من الرؤى الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- والتي تضع ضمن أولويَّاتها تعزيز الاستقرار والسلم العالمييْن؛ حتى باتت عُمان دولة مُؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي، ترتقي بموقعها ودورها المحوري تدريجيًّا.. مرجعاً ومركزاً يقصده زعماء العالم للمشورة، وأخذ الرأي القائم على الحياد الإيجابي والاستقلال في القرار.

عَكَس ذلك ما حَظِي به حوارُ مَعَالي يُوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، مع جريدة "عكاظ" السعودية، من اهتمام واسع سواءً من الإعلاميين أو المهتمين، ووصفه بـ"الطرح الجريء"؛ في صورة تُبلور رِهَان الكثير من المراقبين على الدور العُماني، حاليا ومُستقبلا، ذاك الدور المرادف لسياسة "إطفاء الحرائق" وصناعة السلام بين الأطراف المتصارعة، وخلق حالة من الوفاق والانسجام بين الشعوب ودول العالم المختلفة.

وقد جاء النفيُّ القاطع لابن علوي للأنباء عن عمليات تهريب سلاح إلى اليمن عبر السلطنة؛ ليكشف التوازن بين سياستيْ الداخل والخارج، كمعيار ارتباط مباشر بين الهدوء والحسم، والحكمة والقوة؛ إذ ترفض عُمان مَسَاسًا بمبادئها المؤمنة بقدسية حياض الوطن وعدم استغلاله ستاراً لأي من اللاعبين السياسيين؛ سواءً الأشقاء أو الأصدقاء أو الحلفاء. وكضابط لكِفَّة الميزان السياسي؛ جاء النفي الثاني لأنْ تكون مسقط تواصلت مع عبدالله صالح للخروج من اليمن؛ فجاء الرد مقتضبًا: "وماذا يخصُّنا فيه؟!". والنفي الثالث كان مع الأزمة في سوريا؛ وتدثَّر الردُّ بالحنكة الدبلوماسية؛ بتأكيد بديهي على "أن لا عذر لأحد"، وأن "يومًا سيأتي تفتح الأوراق وسيكون السوريون مسؤولين عما حدث"، وأن الأزمة الآن بيد اللاعبين الكبار. وبالطبع يقصد روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

الاتزان الدبلوماسي ظل لصيقاً بكافة محاور اللقاء؛ وهو ما بدا قويًّا في الرد على سؤال حول الموقف العُماني من إزهاق دماء الأبرياء في سوريا، بتحميل المسؤولية لأعضاء جامعة الدول العربية جميعا، وكذا توضيح موقف السلطنة من مقترح استحداث الاتحاد الخليجي، ورفض المشاركة بـ"التحالف العربي في اليمن"، كتأصيل لنهج اعتدالي مستمر تاريخيًّا؛ تنشط به عُمان بقوة على الأرض ولكن "بصمت"، كطرف دبلوماسي يمتاز بالحيادية، ويثق به أغلب الأطراف الفاعلين.

إنَّ توجهاً حصيفًا للتعاطي السياسي العُماني، بات اليوم مصدر إلهام للكثيرين، ممن ينظرون إليه على أنه ضمانة لتمتين العلاقات ودعم القضايا القومية، وتعزيز التضامن العربي، والدفاع عن الحقوق المشروعة. وعُمان تُمارس تلك السياسة بفاعلية وثقة وهدوء دون ضجيج أو صخب إعلامي، بما يُثبت قدرتها غير المحدودة على التعاطي مع الأزمات ومواكبة التحولات "الدراماتيكية" الناشئة عن انتشار النزاعات والعنف وعدم الاستقرار الذي يهدد مُقدِّرات المنطقة بأسرها، رغم أنَّنا جُغرافيُّا لسنا بعيدين عن تطاير شرارات الأزمات، بل إننا بالقرب من قلب فوهة بركان المنطقة.

وترفدُ السلطنة كلَّ ذلك، بدور بارز في توطيد العلاقات التجارية والاقتصادية، وتسخير إمكانيات وزارة الخارجية -المتمثلة في السفارات والقنصليات في الخارج- لتعزيز مكانة عُمان وسمعتها كواحة للمحبة والأمن والسلام، وكبلد صديق للعالم ومقصد واعد وجاذب للاستثمار والسياحة والتجارة الخارجية، بلد يسود فيه التعايش السلمي والتسامح الديني، يحتكم فيه الجميع للقانون، وتظلله قيم العدل والمساواة، ويتمتع أهله بالأصالة والكرم وقبول الآخر، بلد صاحب حضارة وتراث وقيم ضاربة في أعماق التاريخ.

إنَّ عُمان المُحبَّة لطاولة الحوار، المُؤمنة بالتفاوض والحلول السياسية ونبذ الحروب، تكتسب اليوم صداقة العالم أجمع بفضل رُؤى ثاقبة في تطبيق سياسة الحياد الإيجابي، ضمن مبدأ التعايش وتبادل المصالح التي تخدم الشعوب، وتعزز الصلات وتقوِّي الوشائج، وتوطد دعائم الأخوة والتعاون المشترك على كافة المستويات؛ فمتوالية النجاح الدبلوماسي للسلطنة تُعتبر رصيدا إيجابيًّا يُسهم في خلق مفهوم موحَّد ومعاصر للتضامن والعمل الدولي المشترك.