الأخلاق.. "كروموسوم" الإدارة الناجحة (3)

 

عمَّار الغزالي
كانت أولوية الطَّرح تستوجب مني أن أنسجَ كلمات هذه السطور حول إستمرار المسيرة -المبشرة بالخير- للمرحلة الثانية من البرنامج الوطني "تنفيذ"؛ باعتباره حجز زاوية لانطلاقة المرحلة الآنية والمقبلة، خاصة في ظلِّ ما يعتري منظومتنا الاقتصادية من مهدِّدات عنيفة خلَّفتها أزمة انهيار أسعار النفط، والتي أرخت سدول تداعياتها على مُختلف القطاعات، وهو ما كان سيتبع بالضرورة قطع السلسلة التي نحنُ بصددها، إلا أنَّني بعد حالة من التردد والعناء الفكري والشد والجذب الداخلييْن، ارتأيتُ أنْ أستكمل هنا ما ابتدأته من حديثٍ عن الأخلاقيات الاقتصادية؛ من مُنطلق أن كلا الموضوعين ينطلق من نقطة واحدة، ووجهتهما النهائية واحدة كذلك، وهو إيجاد ضمانة تنموية تقود قاطرة النماء والعطاء في بلادنا، لنستكمل رحلة البناء وفق رؤى نيرة وتوجيهات سديدة اختطها لنا مولانا حضرة صاحب الجلالة حفظه الله ورعاه.
فقد نَحَتت "الرأسمالية العالمية" و"طغيان الماديات" و"سيطرة معايير الربح والخسارة والمنفعة"، على دفة الاقتصاد العالمي، فقادتْ سفينته إلى شطآن أنظمة وسياسات لا أخلاقية، لم تفِ بوعودها إزاء ادِّعاءها المَقْدِرَة على القضاء على الفقر والفوارق الاجتماعية والتضخم المالي، لتكشف عن خلل منظومي أسهم في خلخلة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ليس بشهادة خبرائنا ومفكرينا فحسب، بل بأقلام الغربيين والداعمين لهذا النهج الاقتصادي (اللا أخلاقي).
وما انهيار شركة "إنرون" نهاية العام 2001، منا ببعيد، إذ تعدُّ من أبرز الشركات التي سقطت نتيجة عوامل تفتقد لأخلاقيات المهنة والأعمال؛ حيث سقطت الشركة العملاقة بأصول تقدر قيمتها بنحو 63.4 مليار دولار؛ الأمر الذي شكَّل أكبر إفلاس لشركة أمريكية وربما على مستوى العالم أجمع. وبعد أن استمعوا إلى 56 شاهداً خلال 15 أسبوعاً من جلسات المحاكمة في مدينة هيوستن في ولاية تكساس الأمريكية، قرَّرت هيئة المحلفين بالإجماع أن اثنين من المديرين التنفيذيين لشركة إنرون -هما كينيث لاي وجفري سكيلنج- كانا مُذنبين في عدد من التهم التي وُجِّهت إليهما في قضايا تتعلق بالفساد والتآمر، وكذلك بالكذب بشأن المتاعب المالية للشركة. وقد وجد سكيلنج مذنباً في 19 تهمة من أصل 28 تهمة، كانت لو أدين فيها كلها ستجعل فترة سجنه تبلغ 275 سنة. أما لاي فقد وجد مذنباً في ست تهم تتعلق بالتحايل والتآمر، وكُتبت بذلك نهاية مُؤسفة لمساهمي تلك الشركة العملاقة، وهم يشاهدون أصول شركتهم تهوي من آلاف الملايين من الدولارات (خلال التسعينيات) إلى اللا شيء تقريباً.
وعلى الرغم من كَوْن بعض الحالات -في تلك القضية المتشعِّبة- لا تعدُّ خرقاً للقواعد الأخلاقية، إلا أنها شجعت الإدارة وأعضاء لجنة المراجعة على أن يحاول كل منهما إرضاء الآخر من أجل بقاء المصالح الشخصية التي تأتي من البقاء في مواقعهم. وبلا شك، فإن مصالحهم الشخصية التي حرصوا على بقائها تعد من أوضح التعريفات لموضوع التعارض في المصالح وتأثيرها البيِّن على المبادئ الأخلاقية الناتج عن الطبيعة البشرية.. لذا فليس من المثير للعجب أن نعلم بأن ثلاثة من أعضاء لجنة المراجعة الستة في شركة إنرون كانوا يملكون حوالي 100 ألف سهم بقيمة تقارب الـ7.5 مليون دولار!!
إنَّ حالة شركة إنرون لا يُمكن النظر إليها على أنها حالة لمرض عابر، بل هو وباء عام أصاب جزءاً فاسداً ملوثاً من المهنة، اقترن بتواطؤ قوي من قبل القائمين على إدارة ورقابة الشركة، ولم تكن حالة شركة إنرون فريدة في هذا الصدد، بل يحفل التاريخ الاقتصادي بالعديد من حالات الفشل لكثير من الشركات العالمية؛ منها على سبيل المثال: فضائح شركة جنرال إلكتريك، والتي أظهرت مؤشرات التحقيق أنَّ أهم أسباب انهيارها هو الفضائح المالية والمحاسبية، والتي أخفى المسؤولون فيها بعض البيانات والمعلومات المالية، وتمَّت تغطية الخسائر من الاحتياطيات والمخصَّصات التي تخص صندوق معاشات الموظفين، وحافظ البعض على أرباحه من المصدر نفسه، لتزلزل "اللا أخلاق" أركان تلك الشركة العالمية.
ومثل هذه الفضائح المالية التي تجتاح الشركات العالمية من حولنا، تثير المخاوف حول الدور الذي تقدِّمه مجالس الإدارات، وكذلك لجان المراجعة في مراقبة ومتابعة العمليات المالية، وبالتالي حماية الشركات من الغش والتلاعب، وهو ما يستتبع بالضرورة الحديث عن نقطة مفصلية، تشبه "النقطة المحورية" الثابتة في منتصف "البندول"، والتي يُمكنها ضبط إيقاع العمل وتجنيبه الوقوع في براثن الاقتصاد اللا أخلاقي؛ ألا وهي: ميثاق الشرف المهني، بوصفه مجموعة من القوانين والمبادئ التي تحكم موظفي مهنة ما، وفق ما يُميِّز الأخلاق في مجتمعهم من قواعد ونظم، بل وعادات وقيم؛ ومن هذا المنطلق يعدُّ هذا الميثاق بمثابة مُكمِّل للقوانين التي تُصدرها الجهات والهيئات المعنية؛ أي أنه ليس بديلاً عن القوانين أو القواعد أو التعليمات المعمول بها.
ويشجِّع إقرار "ميثاق شرف مهني" على الرقابة الذاتية، وتوفير حماية تتجاوز ما توفره أساليب الرقابة الخارجية بمفردها، والتحلي بالمزيد من روح المسؤولية المهنية والحرفية العالية في الأداء؛ ذلك لأن الموظفين يمكنهم استلهام التوقعات السلوكية التي من شأنها تحفيزهم للتصرف بطريقة مهنية صحيحة، وكذا نشر مفهوم الالتزام بالقوانين والأنظمة؛ مما يساعد على العمل في بيئة تتميز بالأداء المنضبط والملتزم بمقتضيات القواعد التنظيمية؛ حيث تنتظم المواثيق الأخلاقية في نمط أساسي يقوم على مجموعة من المعايير والأحكام، والتي يجب على أصحاب تلك المهنة تطبيقها، وهي معايير تفصيلية، توفر إرشادات للموظف والمدير (على حدٍّ سواء) أثناء قيام أحدهم بعمله واتخاذه للقرارات. أما إشكالية أن يكون القائمون على صياغة مثل هذه المواثيق من أبناء المهنة ذاتها، فهذا أمرٌ مفروغ منه، إذ إنه وكما يقال: "أهل مكة أدرى بشعابها".
ونخلص من تلك التفريعات، إلى نقطة الأساس؛ وهي أنَّنا ما لم نضع القضية الأخلاقية على رأس أولوياتنا في هذا الزمن الملوث، فسوف ينشأ لدينا جيل ثقافته الفساد وإنجازاته السرقات والاعتداء على المال العام ومقدرات الدولة، وموروثه الكذب والتزييف والانحراف، فتندثر القيم والأخلاق والمبادئ التي جُبلنا عليها، وسيتسابقون على نحر الوطن بـ"سكاكين وطنية" ليفوزوا بأكبر قطعة منه، دون أن يشعروا بقيمة الوطن والمواطنة، ويعوا مدى خطورة ما زرعناه لهم في هذه المرحلة اللا منطقية واللا معقولة.
إنَّ الأخلاق جزءٌ وثيق من الإيمان والاعتقاد، وإتمامها من أهم مقاصد البعثة النبوية المشرفة، باعتبارها روح الإسلام، وأنَّ النظام التشريعي الإسلامي هو كيان مُجسِّد لها. وباعتباره صالحا لكل زمان ومكان، فقد أولى ديننا الحنيف الجانب المالي والاقتصادي اهتماما واسعا؛ عبر عدة قيم وأخلاقيات تنظِّمه وتعيد ترتيب أوراقه من الداخل، لترتقي به بعيدًا عن أنظمة وسياسات عقيمة لم تنجب لنا إنجازاً ولم تحقق لنا نماءً؛ فكما قال الراحل أحمد شوقي:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه...
فقوِّم النفس بالأخلاق تستقم!