الهند "الدرس الثاني": الفرح

 

عائشة البلوشية

 

تضعنا أقدارنا أمام مسارات ودروب كثيرة، ونحن من يختار الاتِّجاه الذي يسير فيه، فنسعى في الأرض ونمشي في مناكبها متوكلين على الله الواحد، نخلص النوايا ونُضمر الخير لمن/ما حولنا، ويأتي التنقل بين بلاد الله الواسعة من ضمن هذه الخيارات والاختبارات، والفطن هو من يُضمر اكتساب ثقافة أو معلومة أو أسلوباً حسناً أو علماً في قائمة رغباته الشخصية وذلك قبل أن يحزم حقائب الزمن ليحلق مسافرًا إلى محطة جديدة من محطات حياته، وألا يركن إلى اجترار الألم والحزن بسبب مسافات الفراق، ويجب أن يملأ جيوبه أملاً بأنّه سيعود يوماً ﻷرضه ووطنه بإذن الله محملا بالجميل والإيجابي الذي ينفع به وطنه وأمته...

 

السفر إلى بلاد المهراجات والأساطير والتوابل -لمدة طويلة نسبياً- جاء بمشيئة الله تعالى، وهي ليست الزيارة الأولى لي، ﻷنني زرتها في طفولتي، وكنت محظوظة حينها بزيارة "كشمير"، أرض الجمال طبيعة وسكاناً، وكذلك ضريح الحب الخالد "تاج محل"، وغيرها من المناطق المُختلفة في مقاطعات الهند، ولكن هذه المرة جاءت مختلفة في جميع تفاصيلها، وهي زيارتي الأولى إلى مدينة "مومباي" بمقاطعة مهارشترا، واستناداً للمقولة المعروفة بأنّ للسفر سبع فوائد فقد عقدت العزم أن أحاول اغتنام الفرصة لاستخلاص الدروس الممكنة خلال هذه الرحلة، لذلك فتحت مسام روحي لاستشفاف كل إيجابي يصل لسمعي وبصري منذ الوهلة الأولى التي حطَّت فيها إطارات طائرة الطيران العُماني في مومباي، وهي العاصمة التجارية لجمهورية الهند الصديقة...

 

فكان من ضمن ما شدَّ انتباهي وبقوة لم أتمكن من مقاومتها، هو الدرس الثاني الذي تعلمته من الهنود، ﻷنني سأؤجل الحديث عن الدرس الأوَّل إلى مقال آخر، فهذا الدرس نحن في أمس الحاجة إليه مع ما يمر بنا من أحداث ومُتغيرات كثيرة حولنا، درسنا اليوم يا سادة يا كرام عن خاصية "تعليب الفرح"، فالهنود يختلفون عنّا ﻷنهم لا يضعون الفرح في علب جاهزة أو قوالب مصنعة أو أكياس وحقائب ضيقة، فالفرح بالنسبة إليهم لا يأتي على شكل قوالب جامدة، ولا يقومون بصيده ليجعلونه كذلك، بل يطلقونه ليصبح حرًا طليقاً ينتشر في الأجواء كشذى العطر في الهواء، ليستمتع به كل من يصل إلى أنفه، شعب يفرح بأبسط الأشياء ولأبسطها وفي كل مكان، ورغم تناثر العشوائيات الكثيرة جدًا في "مومباي" إلا أنّهم يستمتعون بكل ما في اللحظة من زمن، وكأنهم يعتبرون الحزن سارق اللحظات السعيدة، فتجدهم يتوارون عنه خلف كل موسيقى رومانسية، ويشرعون أمامه متاريس ابتساماتهم، ويجلسون بثيابهم الفخمة أو الرَّثة على حدٍ سواء يتأملون البحر يثرثرون مُبتسمين ليعبوا من الفرح تعبئة وهم يهزون رؤوسهم بطريقة تُميزهم عن غيرهم من الشعوب، أناسٌ لا ينقبون عن النَّكد في باقة ورد زاهية، أو يحفرون وراء الحزن في تغريد عصفور جميل، تتجاور الأحياء الراقية بجانب العشوائيات المدقعة في الفقر، ولكن هذا لا يعني أنّهم ينظرون إلى البنايات المتنافسة في العلو بكمد، أو إلى السيارات الفارهة بغم وحقد، بل إنّهم لا يأبهون لتلك الأمور بتاتاً، عندما يجن الليل يفترشون الأرصفة ويروحون في سُبات عميق، وكأنّهم يستلقون في فراش وثير، وتجد خشبات بسيطة جداً للعروض الموسيقية والمسرحيات الهزلية الساخرة متوزعة في أقل من كيلومتر واحد من العشوائيات، وأجمل المناظر التي تراها وتعطيك الانطباع الأول عن أيّ بقعة في هذه الأرض، هي فترة البواكير من بداية أيّ يوم، فهي تعطيك أصدق صورة عن مستوى التصالح النفسي لسكان أيّ بلد، حيث كان وصولنا إلى المدينة في الصباح الباكر، فحظينا برؤيتها تستيقظ سراعاً على ازدحام عجيب، ولكن الأعجب أنّ هذا السيل الهائل من أنواع المواصلات لا يتوقف نهائياً، ولا تجد الاختناقات المرورية التي تجدها في المدن العالمية، وكأن شوارعها شرايين خالية من الجلطات، وعندما تتصفح الوجوه من حولك، ترى الرضا يكتسح السواد الأعظم، فتلك دراجة نارية تحمل أسرة صغيرة، جميعهم يتحدث في ذات الوقت، وهذه سيارة أجرة مكتنزة بالوجوه المحملقة بابتسامات منتشرة، وهنالك حافلة تصلك ضحكات طلابها وأنت عابر بجوارها، رغم إدراكك لحالتهم المادية المتدنية جدًا من خلال ما تراه واضحًا من حولك، ولكنهم شعب لا يسخط من كثرة المطر، ولا يتذمر من شدة الحر، يعمل ويذهب لمؤسسات العلم طوال اليوم بسرور، وفي المساء يأكلون ما تيسر لهم ويستعدون لليوم التالي، غير مكترثين بما يرتفع أو ينخفض في هذا العالم الواسع، وعندما تتجاذب أطراف الحديث مع أحدهم، تجد العجب، فهم يأسفون لحال الأثرياء ﻷنّ لديهم الكثير من المال والقليل من الفرح، فالفقير ينتظر اللحظة التي يضع رأسه فيها ليغط في النوم بعد يوم عمل مضنٍ، والغني يفكر في اللحظة التي يزيد رصيده البنكي فيها "لكا" آخر، ولكنهم جميعًا مقتنعون بأن الكل في هذه المدينة المكتظة بالبشر يعيش بفرح، بدءًا بالملياردير الفاحش الثراء، وانتهاء بذلك الذي يتخذ من ظل إشارة المرور سكناً له وﻷسرته...

 

خلاصة الحديث، ما أجمل أن نعيش في فرح الرضا والحمد، ونحن المغموسين في النعم التي لا تحصى غمسًا، أولها نعمة شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتأتي بعدها باقي النعم العظام لتشل ألسنتنا من روعة منعمها علينا، لم لا نجعل الفرح رفيق قلوبنا وأرواحنا؟، لم لا ندحر به شيطان اليأس والتأفف والتذمر؟، إنّ الفرح مبعثه التفاؤل بكل ما هو خير من الله تعالى، أن نتحصن الفرح رغم أنف كل ما يمكنه أن يُحيط بنا من انخفاض لبرميل النفط، أو موت أو نزاعات أو فساد أو غش أو تدليس؛ الفرح يصنع من نفسه درعًا حصينة حول قلوبنا المسكينة التي آذيناها بلفحات الالتفات للمحبطات والمثبطات من حولنا، جرعات الفرح الدائم تدفعنا للعمل بإيجابية، ونفحات الفرح تُضفي على هالاتنا صفاءً روحانياً عجيباً، يُدخلنا في محراب النورانية الشفافة...

 

توقيع:

"لما عفوت ولم أحقد على أحد.. أرحت نفسي من هم العداوات

إنِّي أحيي عدوي عند رؤيته.. ﻷدفع الشر عني بالتحيات"

هلال بن العلا الباهلي.