"جاستا".. دروس وعبر

زاهر المحروقي

لم أتفاجأ بقرار الكونجرس الأمريكي بإبطال فيتو الرئيس أوباما على قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب"، المعروف اختصاراً بـ"قانون جاستا"، والذي يسمح لعوائل ضحايا هجمات 11 سبتمبر بمقاضاة السعودية وتحميلها المسؤولية عن الحادث، رغم أنَّ الحكومة السعودية في الأساس هي بريئة من التهمة، حتى وإن كان 15 من أصل 19 من المنفِّذين سعوديين؛ فالواضحُ الآن أنَّ أمريكا لم تعد بحاجة إلى دور السعودية ونفطها، بعد أن أصبح الفكر الوهابي وبالاً وعالةً على الحليف قبل العدو، لدرجة أن تُعقد مؤتمرات توضِّح للناس من هم "أهل السُّنَّة والجماعة"، في خطوة تهدف إلى التبرؤ من هذا الفكر. فعلى مدى أكثر من 70 عاماً خدمت السعودية أمريكا، وكانت العلاقات بين الطرفين توصف بأنها علاقات إستراتيجية، حيث استفادت واشنطن من الرياض من خلال استغلالها أيام الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي في أكثر من مكان خاصة في أفغانستان، وكذلك استغلتها في العراق وسوريا وليبيا واليمن لتغيير حكوماتها أو سياساتها، وقد كلفت الحرب السعودية على اليمن وسوريا مئات المليارات من الدولارات، حتى صارت تعاني عجزاً في موازنتها، فلجأت الحكومة إلى تطبيق سياسة التقشف، بعد أن كانت السعودية تصر على سياسة إغراق السوق بالنفط حتى تتأثر روسيا وإيران، قبل أن تدفع ثمن ذلك وتوافق على سياسة تخفيض الانتاج في اجتماع أوبك الأخير.

ويَرَى كثيرون أنَّ أمريكا ورّطت السعودية في حروب المنطقة ثم تخلت عنها لتواجه مصيرها بنفسها، وقد يكون هذا الكلام صحيحاً، ولكن في كلِّ الأحوال كانت خطوة كهذه متوقعة؛ فأمريكا لا تعترف بالمشاعر وإنما تؤمن بمصالحها فقط، ومتى ما انتهت المصالح تتغير السياسات، ويبقى السذج من الناس يُوَلوِلون ويقولون إنّ أمريكا خدعتنا. وعبر التاريخ فإنّ هناك كثيراً من الدروس والعبر التي مرّ بها عملاء أمريكا سواء كانوا أفراداً أم حكومات أم أسر حاكمة، إلا أنّ المتعظين قليلون، وفي كلِّ الأحوال، فإبطال فيتو أوباما مؤلمٌ جداً للسعودية، وظهر ذلك جلياً في وسائل التواصل الاجتماعي وفي توجهات الصحافة السعودية، إذ وصفه بعض المغردين بأنه "صفعة أمريكية جديدة في وجه السعودية"، و"دليل على أنّ دور السعودية انتهى". وفي الواقع فإنّ المسألة تبدأ اليوم بقانون العقوبات ولن تنتهي إلا بالتقسيم، وليس شرطاً أن يتم التقسيم فوراً؛ فالخطةُ دائماً تنفذ على نار هادئة ولا عزاء لمن لا يقرأ، أو من يعيش في الأوهام.

وبعد قراءتي لمذكرات فرح ديبا أرملة الشاه محمد رضا بهلوي، ظللت فترة طويلة لا أستطيع تحديد مشاعري تجاه الشاه، ولكني إنسانياً تعاطفت معه بعد تلك المعاناة الشديدة التي عاناها، بعد أن أخلص لأمريكا واعتقد أنه سينال جزاء عمالته خير الجزاء، وهو نفس الاعتقاد الذي يعتقده "عملاء" أمريكا في كلِّ زمان ومكان؛ وكلمةُ "عملاء" هي الأقرب إلى الصواب من كلمة "حلفاء"؛ فالحليفُ دائماً يكون نداً لمن يتحالف معه، أما العميل فهو ينفذ الدور المطلوب منه فقط، وعندما ينتهي الدور ويصبح العميل عالةً، فإنّ التخلص منه يكون واجباً حفاظاً على المصالح، لأنّ في العلاقات السياسية تكون المصلحة هي الأساس، ولا اعتبار لمشاعر الصداقة والوفاء والإخلاص التي هي أقرب إلى قصص الحب في الأفلام والمسلسلات العربية والتركية.

وتذكر فرح ديبا أنّ الشاه كان يستمد من علاقته بأمريكا قوة يدعم بها حكمه داخل إيران وخارجها، إلا أنّ تلك العلاقة شابتها حالة من التوتر بين الجانبين في أعقاب تولي جيمي كارتر الحكم؛ وتستشهد فرح على توتر العلاقات بقصة زيارتها هي وزوجها للبيت الأبيض في العام 1977، وهي قصة لها مغزاها، لمعرفة ما حدث في إيران فيما بعد، وتقول: "كان لدينا اجتماع مع كارتر وزوجته، وحالما دخلنا قاعة الاجتماعات، لاحظنا أنّ السلطات الأمريكية كانت قد فتحت الأبواب والممرات بأكثر من المعتاد وسمحت للمعارضين الإيرانيين بالتسلل إلى الداخل أكثر من المسموح به، وحال مشاهدتهم لنا علت هتافاتهم وصراخهم وشغبهم، عندها اضطرت الشرطة إلى استعمال العصي والغازات المسيلة للدموع؛ ولأنهم كانوا قريبين جداً منا فقد استنشقنا هذه الغازات، وقد نقلت جميع وكالات الأنباء العالمية صورنا ونحن نسعل وندمع سواء في جلسة الاجتماع، أو عند إلقاء الكلمة الافتتاحية في بداية الاجتماع". وتصف ديبا الرئيس كارتر بأنه من دعم الخميني لتحقيق الانقلاب، وأنه من حرم الشاه وأسرته من اللجوء إلى أمريكا، وأنه من فاوض نظام الخميني لإجلاء رعايا أمريكيين محتجزين في السفارة الأمريكية بطهران، وأنه من سمح أخيراً للشاه بالتوجه لمستشفى بالولايات المتحدة الأمريكية على مسؤوليته الشخصية ولأسباب إنسانية بحتة. ولذلك -كما تقول- كان الشاه غاضباً من الحكومة الأمريكية، متعجباً من سبب وقوع ما حدث، في الوقت الذي كان فيه الجانب الأمريكي متشدداً في مناقشة قضية المطالبة بالحريات في إيران. وتصف فرح ديبا رحلة الشاه النهائية والمآسي التي مرّ بها طريداً من بلد لآخر حتى لحظة وفاته، وتقول: "كانت لدينا علاقات مع معظم بلدان العالم، بعضها علاقات وثيقة وعلاقات صداقة، والآن يديرون جميعهم ظهورهم لنا".

لم يكن الشاه الوحيد الذي دفع ثمن ولائه لأمريكا؛ فهناك كثيرون، فمثلاً عقب الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك، صرح بنيامين بن إليعازر عضو الكنيست ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق، أنه اتصل بمبارك الذي اشتكى له تخليّ أمريكا عنه في أصعب المواقف، ونسيانها لكلَّ ما قام به لصالحها، واعتبر بن إليعازر أنّ الدولة التي خدمها مبارك أكثر من غيرها هي أمريكا، فكان النظام المصري، القاعدةَ الأساسية الأقوى للغرب في المنطقة، عدا إسرائيل، وأنّ "الأمر القاسي والأكثر سخرية هو أنّ هذه الدولة التي خدمها أكثر من 30 سنة، هي التي قالت له: "قُمْ واترك عرشك"، وليس هذا فقط بل إنّ أكثر من دولة رفضت مساعدة مبارك لأنه أصبح "إسفنجة لم تعد صالحة للاستعمال".

ما قاله بن إليعازر عن مبارك ينطبق على الكثيرين ممن خدموا أمريكا على حساب أوطانهم وشعوبهم، فقد غدرت أمريكا برجلها القوي في بنما الجنرال مانويل نورييجا، بعد أن ألصقت به تُهماً مختلفة، منها الاتجار بالمخدرات والاحتيال، فاختطفته جهاراً ورمت به في السجون الأمريكية، بعد أن أفنى عمره ونفسه في خدمة أسياده.

إنّ مصير الشاه ومبارك ونورييجا وغيرهم ممن تطول بهم القائمة، يُظهر بوضوح أنّ مصيراً كهذا ينتظر كلَّ عملاء أمريكا في أيِّ مكان؛ فالتحالفُ مع أمريكا -أو الأصح التبعية لها- ليس ضماناً للحكام بأن يستمروا في كراسيهم أو أن تستمر أنظمتُهم؛ فالضمانُ الحقيقيّ لأيِّ نجاح هو الاستجابة لرغبات الشعوب في الإصلاح والقضاء على الفساد، واستغلال ثروات الأوطان لصالح المواطنين، بدلاً من بعثرتها في حروب وهمية يمنة ويسرى، ولا يمكن لأمريكا أن تقدِّم تضحية مّا من أجل شخص أو نظام أو أسرة حاكمة، ما داموا غير قادرين على خدمة مصالح أمريكا أو أنهم أصبحوا عبئاً عليها. وأيُّ نجاح دائماً فهو يُستمد من الداخل. ولا يصح أن تتخلى أمريكا عن حلفائها، فيبحث هؤلاء الحلفاء عن حليف آخر هو إسرائيل، التي أصبحت الآن قِبلة الأنظمة العربية؛ فإسرائيل هي جزءٌ من أمريكا ولها أهدافها ومخططاتها أيضاً، ويكفي الآن أنها اخترقت الأنظمة الخليجية بحجة العداوة المشتركة ضد إيران؛ فالفرصةُ ما زالت قائمة لاستمداد الشرعية من الداخل ومن الشعوب التي سكتت فترة طويلة عن المطالب الأساسية، لأنّ الظروف الاقتصادية كانت معقولة، أما وقد تأثرت حياة المواطنين الذين تعوّدوا على الأخذ دون العطاء، فإنّ الولاء نفسه أصبح في خطر، ولكن: هل هناك من هو مستعد أن يستفيد من الدروس والعبر، قبل أن يقع الفأس على الرأس، وهو واقع لا محالة؟!