ماهو القادم .. بعد تنفيذ قانون جاستا ؟



الدكتور / واصل القعيطي
ألغى الكونجرس الأمريكي،حق النقض (الفيتو) الذي استخدمه الرئيس الأمريكي باراك أوباما لعرقلة قانون 11 سبتمبر الذي يسمح بمقاضاة من له دور مزعوم في الهجمات التي وقعت قبل 15 عاما، وذلك للمرة الأولى التي يتجاوز فيها الكونجرس الفيتو الرئاسي خلال عهد أوباما.. وبهذه الموافقة من قبل الكونجرس الأمريكي ، يبدو أننا مقبلون على متابعة أهم انقلاب قانوني يقوده مجلس تشريعي وطني على المبادئ القانونية المتعارف عليها في العالم كله. ويعيدنا إلى عصر روما القديمة التي قدَّمت للعالم فيما مضى قانون الشعوب. لكن قانون روما القديمة قدّم للعالم آنذاك أهم المبادئ القانونية التي ما زالت حتى يومنا هذا مصدراً تاريخياً للكثير من النظم التشريعية. أما مشروع قانون جاستا الأمريكي فهو يمثل خروجاً على الحصانات السيادية للدول، ومعايير الاختصاص القضائي، وشخصية المسؤولية القانونية، ويكاد يجعل من الكونجرس الأمريكي مجلساً تشريعياً للعالم وليس للولايات المتحدة الأمريكية فقط..هذا القانون تجاوز المشهد العام في معظم الدول العربية من حوادث، بعضها أصبح أشبه بالخبز اليومي تنتظره الشعوب كما لو كان ساعي بريد يحمل معه طروداً من أكفان وأحزان يوزعها على الناس وفق مقادير الموت، وبأشكال فنية سريالية يستحيل أن يبدع فيها فنان مثلها، إنها لوحات بشعة تُنقَش على جروح الأبرياء، أدواتها براميل متفجرة أو عصابات قاتلة أو قصف عشوائي يبيد قرية كاملة لأجل البحث عن حذاء إرهابي قيل إنه مر من هنا. ولنسأل أولئك اللاجئين الهاربين، ما الذي دفعكم لركوب البحر ومواجهة الموج والموت بأطفالهم ومرضاهم  المقعدين، أو اسألوا من يحفر الأنفاق ليلاً ونهاراً ما الذي يدفعكم للعيش كالجرذان في أقنية الموت البطيء، أو نسأل الواقفين أمام مراكز الشرطة وأبواب السجون ليستخبروا عن حال أولادهم أو أزواجهم الذين أُخذوا ليلاً وهم نائمون تحت دعاوى الإجراءات الأمنية في ظاهرها وفي باطنها الانتقام السياسي، فانقطعت أخبارهم أشهراً بل أعواماً دون خبر أو جواب..عالمنا العربي أضحى إذا لوحة مأسوية كل يوم تضاف إليها شخوص وأشكال جديدة، تزيدها قتامةً باهرة!، بيد أن الأحداث التي حدثت في عدة دول غربية ، كانت ذات وقع مختلف، فالعالم يصحو عندما صرخت واشنطن 2001 وصرخت أكثر من الاعتداءات التي طالت باريس،وبروكسل وغيرها، ويبكي عندما تتألم، لا أحد يصمّ أذنيه عن سماع ما وقع فيها من قتل وإرهاب، وربما لن يستطيع حتى لو أراد الصمم أو الإغماض!، فهذه ليست مدن في العراق وليبيا واليمن . يكفي ما سبق من مدن، فليس المقام إلا للتذكير لمن لم يفقد بعد ذاكرته التاريخية والجغرافية. أذكر المدن الغربية بألمٍ حقيقي لأنها تعرضت لفعل إرهابي حقيقي أو مزيف، لا يهم، المهم الذي يدعو للأسى والحزن هو وقوع أبرياء لا تعنيهم السياسة ولا أحداث العالم ولا ما يحصل في وطننا العربي، ضحايا في سلسلةٍ من الضربات والتفجيرات القاتلة العمياء الحمقاء التي سالت لأجل تلك الحماقات دماء بريئة وبلا ذنب.. وهنا سأهتم بإشكالية واحدة تسترعي الانتباه  في كل حدث إرهابي يقع في الغرب، وهي إشكالية استدعاء التاريخ الماضي بثقله وتعقيداته ليطغى على تحليل الواقع المعاصر، وأمام هذه الفكرة نستهدي ببعض الآراء ، ومنها عادةً ما يقفز على ساحة التحليلات السياسية والفكرية، تلمّس الشبيه والنظير التاريخي القديم، وإسقاطه مباشرة على واقعة إرهابية أو أزمة معاصرة، وعلى هيئة القطع واللصق الحاسوبي، وفي نماذج من الأحداث الماضية ، لتذكرنا بما فعل الفرنسيون بالجزائرين أو في مستعمراتهم المنكوبة أو ممارساتهم البشعة في تاريخهم النضالي والثوري، وهذا حق ولا أظن الفرنسيين ينفون عنهم هذا التاريخ، ولكن ما قيمة استدعائه اليوم بعد مرور قرون أو عقود من الزمن، أليس من أجل البحث عن وسائل للتبرير والتذكير بالانتقام الذي طال انتظاره؟ ولا أدري ممن ننتقم أو من ندين في هذا الوقت؟! وهل يمكن أن نعاقب الأحفاد بما فعل الأجداد؟ وهل يخلو تاريخ أي أمة من فعائل شنيعة مورست في فترات استبداد قام بها ظالمون، غزواً أو قتلاً؟ كل تلك التساؤلات الماضية وغيرها تجعل الإسقاط التاريخي نوعاً من التسطيح، وممارسة الظلم بالظلم، ومقابلة الأزمة بالتحريض عليها لخلق أزمات أخرى لا تنتهي، بينما الواقعة الإرهابية بكل بشاعتها مُرِّرت ذهنياً أنها من الدفاع المشروع والعقوبة المؤجلة التي يستحقها المجرم!!، وبالتالي سنبقى في حلقة مفرغة من تبادل الاتهامات التاريخية، خصوصاً إذا قام المنتقم والناقم بتوزيع الاتهام للمسلمين قبل معرفة المتسبب بالجريمة، لأنه تاريخياً أو في بقعة جغرافية ما، مارس قلة من أتباع الإسلام هذا الجنوح الإرهابي، وهنا تعلو في هذا المشهد الأليم أخلاقيات المواجهة والاستعداد لتدمير كل مكتسب بُني في عقود؛ لأجل تفريغ شحنة الانتقام التي امتلأت بها أنفس وأحزاب متطرفة زاد من غلوائها دوي التفجيرات وصيحات الاستغاثات.. إن استدعاء تاريخ الصراعات الغابرة في المصائب الكبرى نوع من اللعب بالنار، كما فعل جورج بوش الابن في تذكيره بالحروب الصليبية بعد أحداث 11 (سبتمبر) ، وكما يفعل الإسرائيليون في جلد الذات الأوروبي في شكل يومي تذكيراً بفظاعات اضطهادهم لليهود، ومثلها ثارات الانتقام من شخوص ودول قد طواها التاريخ بلا رجعة، بينما المحرضون السياسيون بقصد أو بغير قصد يحاولون أن يركّبوا صورة الأمس على مشاهد اليوم، ويذكوا فتيل الفتن بنار الانتقام، للحصول على أكبر قدر من مغانم الحرب المقدسة..هذه الصفحات التاريخية الماضية من المعارك والحروب؛ قد طويت بجهد جهيد وأخذ زمناً طويلاً حتى نُسيت تلك الوقائع الخاسرة بلا ربح، ثم يأتي اليوم واعظٌ أو إعلاميٌ أو سياسيٌ ليجعلها ساحة المواجهة بين الحاضر والحاضر باستعمال أسلحة التاريخ والماضي الأليم؟!. إن استدعاء التاريخ الماضي الذي ذهبت كل معطياته، واختلفت منطلقاته، وتباينت تحالفاته، كيف نسقط عليه نموذجاً لا يتطابق معه إلا في جغرافيا المكان؟. وبالعودة إلى قانون جستا الأمريكي ، نجد إن وجه الخطورة فيه لا ينحصر فقط في مخالفته لمؤدى الحصانات الدبلوماسية المعترف بها للدول ذات السيادة وفقاً للقانون الأمريكي نفسه الذي لا يجيز مقاضاة حكومة دولة أجنبية أمام المحاكم الأمريكية. لكن وجه الخطورة يتمثل أيضاً في الأساس القانوني المتهافت الذي يبني عليه المسؤولية القانونية لحكومة أجنبية أمام القضاء الأمريكي. فهذا التشريع يجيز مساءلة الأفراد، والكيانات، والدول التي تُسهم عن عمد أو تقصير في توفير الدعم أو الموارد المادية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة لأشخاص أو منظمات بما ينطوي على خطر ارتكاب أعمال إرهابية تهدد أمن مواطني الولايات المتحدة الأمريكية، أو أمنها الوطني،  أو سياستها الخارجية أو اقتصادها. وبصرف النظر عن الصياغة الفضفاضة التي يتسم بها هذا المشروع بقانون وأنه يسوي بين العمد والتقصير، وبين الدعم المباشر وغير المباشر ( وفقاً لأي معيار أو دليل يمكن استخلاص الدعم غير المباشر مثلاً؟ ) فإن السؤال الجوهري هو على أي أساس قانوني يمكن مساءلة ( دولة ) عن أفعال إرهابية ارتكبها ( أفراد ) يحملون جنسية هذه الدولة؟ نفهم مثلاً مساءلة الشخص الإرهابي نفسه عن أفعاله الإرهابية، أو مساءلة منظمة أو جماعة إرهابية عن أفعال ارتكبها أعضاء تنظيميون تابعون لها ويعملون باسمها أو لحسابها. مثل هذه الفروض مفهومة ومبررة وفقاً للمبادئ القانونية التي تجعل الشخص مسئولا عن أفعاله، أو تجعل المتبوع مسئولا عن أفعال تابعيه، على الأقل فيما يتعلق بالتزامه بجبر الأضرار الناشئة عن فعل المتبوع.ما يصعب فهمه أو تبريره هو اعتبار ( الدولة ) نفسها مسئولة قانوناً عن أفعال غير مشروعة لمجرد أن الذي ارتكب هذه الأفعال يحمل جنسيتها. لا يشير تشريع جاستا  إلى أية دولة عربية أو غير عربية أخرى. لكن نحن كعرب يجب أن ندرك أيضاً أن دولنا  هي المرشح الأوفر حظاً لتطبيق أحكام هذا القانون عليها، إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد، هي مسألة وقت لا أكثر.فكل المعطيات  تختلط بشدة، وعلى خلفيتها تدور حرب ما صامتة وغامضة في الشرق الأوسط. وما يُقال عن وثيقة ال ٢٨ صفحة السرية ( وهي لم تعد منذ أيام سرية ) التي قدمتها الاستخبارات الأمريكية للكونجرس ،فأن لدى العالم كله، والعرب خصوصاً، ذكريات مؤلمة عن الوثائق الكاذبة وغير الدقيقة  التي اعتمدت عليها قوات التحالف لتبرير غزوها للعراق في العام ٢٠٠٣، والتي كانت سبباً لأن يقدم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير اعتذاراً عنها منذ شهور قليلة. . مظهر التناقض وربما الدهشة أن مسايرة منطق مشروع القانون الأمريكي  فيما لو قُدِّر له النفاذ القانوني أن يُطبق على دول مثل أمريكا وبريطانيا وغيرهما عن جرائم الحرب وإرهاب الدولة في العراق وأفغانستان واليمن. وهذا ما ألمح  إليه الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه من أن إصدار مثل هذا القانون ليس في مصلحة الولايات المتحدة. صحيحٌ أن الكونجرس الأمريكي  بدا حذقاً في صياغته لمشروع القانون حين استبعد من نطاق تطبيقه الأضرار الناشئة عن أعمال الحرب ، لكن هذا الحذق القانوني لا يمنع من إمكان تطبيق القانون على جرائم الحرب التي تدرك أمريكا بنفسها أنها ليست بمنأى عن أن تطالها هذه الجرائم وإلا ما امتنعت حتى اللحظة عن الانضمام إلى نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية   هذا المشروع يؤذن بانقلاب قانوني عالمي وسنشهد نوعاً جديداً وطريفاً من الحروب هي حروب التعويضات القانونية الدولية ستكون الغلبة فيها للدولة الأذكى والأقوى التي توجد لديها أرصدة مالية وممتلكات مغرية لدول يسهل الإيقاع بها. في نهاية المطاف من حق أمريكا أن لا تنسى آلام وهموم  ضحاياها الأبرياء وعائلاتهم، لكن هل من حق الكونجرس  أن ينصاع إلى ضغوط وجماعات المصالح وهي تسعى للابتزاز ولو كان الثمن القيام بانقلاب قانوني عالمي ربما ترتد نتائجه يوماً إلى أمريكا نفسها؟