إنهن بائعات هوى...!

 

 

مدرين المكتوميَّة

على أحد مقاهي الخوير، جمعتني الصدفة وحدها بإحدى الفتيات التايلانديات، بعد أن كانت تجلس في أحد أركان المقهى، وكانت تسترق النظر إليَّ وأنا كذلك بالطبع، فتبادلنا الابتسامات، ودعوتها للجلوس إلى طاولتي، بعد أن شعرت بشعور غريب تجاهها بأنها تحمل بين ثنايا نفسها شيئا ما وتريد أن تبوح به إلى أحد؛ وبعد أن بعثت إليها برسالة "اطمئنان نفسي"، اقتربتْ وجلست في مواجهتي، وأبديت لها تشوقا للاستماع إليها.. إلا أنني فوجئت بها ودون أية مُقدمات تحاكيني صراحة وبإنجليزية ركيكة: هل تعلمين أن أكثر الرجال العُمانيين ودودون جدًّا، بعضهم يحادثني عن همومه وهو يبكي، والبعض الآخر يأتي لي بعسل وخبز وشواء في إجازة العيد، وبعضهم يغدق عليَّ بالمال من أجل..."، وأخذت تسرد بعض المواقف التي جمعتها (بعلاقات غير شرعية) برجال وشباب من مختلف الأعمال، وتتحدث عنهم بطريقة عاطفية جدا، بدأت أستمع إليها بكل دهشة، فواصلت حديثها: "لكنني سأسافر بعد أيام، فقد ألقت الشرطة القبض على صديقاتي وتمَّ تسفيرهن، وأشعر الآن بالوحدة؛ كون لا أحد يشاركني حياتي"، وظل الحديث هكذا إلى أن ودَّعتها، وانصرفت.

خرجتُ من المقهى وأنا أشعر بشعور غريب، لا أدري إلى هذه اللحظة هل هو أسى أم تعاطف أم نفور، المهم أنها مجموعة من المشاعر المختلطة، جعلتي أفكر في تلك الفتاة طيلة طريقي ومثيلاتها من الفتيات اللائي بزداد عددهن في بلادنا، ويُنظر إليهن على أنهن "بائعات هوي"، وسيطر الأمر على تفكيري، مما دفعني دفعا لأقرأ في عالم "هؤلاء الحائرات"، فاكتشفت أنَّ "الدعارة" كانت أول مهنة في التاريخ؛ حيث وجدت بعض النساء أن بإمكانها مقايضة جسدها بقطعة من لحم الصيد مع أمهر صياد في الرهط أو الجماعة، وأن دولة مثل ألمانيا تعتبر "الدعارة" فيها قانونية، وأنه على الفتيات اللائي يمارسن تلك المهنة دفع ضرائب للدولة، وهولندا تعتبر الدعارة "مهنة" والبلديات مسؤولة عن إصدار تراخيص مزاولة تلك المهنة لأولئك الفتيات. وربما لا يعرف الكثيرون أنَّ في أمستردام تمثالا تكريما للعاملات في هذه المهنة، ويقع مقابل أقدم كنيسة في المدينة، وهو الوحيد في هولندا والعالم. ما أثار استغرابي بحق ما أشارت إليه بعض الدراسات من أنَّ وجود مثل هؤلاء الفتيات يُخفِّف من مُعدلات الجريمة والعنف والاغتصابات والشذوذ، ويمنع تفاقم التشوهات السلوكية والأخلاقية.. بدأ تفكيري يتشعب أكثر وأكثر، إذ فوجئت أن موضوعا كهذا أُفردت له الدراسات والإحصاءات واهتمامات كثيرة بلا شك يعني أنه من الأهمية أن يكون مادة للنقاش في سطور مقال.

وأعلم تمام العلم أننا حينما نتحدَّث عن هذا الأمر، فلابد أن نراعي "الخيط الرفيع" القاسم بين حدود الأدب وغيرها، وأن لا يكون مجرد سرد حكائي لا يقدم ولا يؤخر، بل لابد من وقفة تنهي تلك التجارة التي مهما بلغ ثمن السلعة فيها فإنه رخيص. ولكن قبل مكافحتها بالمطاردة وإنزال العقوبات على هؤلاء الفتيات، لماذا لم نفكر في حلول أكثر نجاعة تُمكننا من حفظ قيمنا وعاداتنا، وتمنع عن وطننا مساوئ قد تقوده إلى انتشار فواحش أكبر ضررا، قد تفت في عضده وتنال من سلوكياته التي نفاخر بها وتعتبر "وسمًا" للإنسان العُماني خارج حدود وطنه.. وهو ما يفتح المجال كذلك أمام الحديث عن ضرورة تنظيم التحاق عائلات الوافدين ليكون أكثر يُسرا؛ بما يحد من تداعيات زيادة أعدادهم (فرادى دون زوجاتهم) على أخلاقياتنا العامة، والذي يعدُّ واحدًا من أبرز أسباب انتشار تلك التجارة "سيئة السمعة"، ومن جهة أخرى ينعش القطاع العقاري.

صحيح أنه لا توجد نفس بشرية سوية لا تجرِّم تلك الأفعال المنافية للآداب، إلا أن وقفها في نظري -على أقل تقدير- ليس فقط بمعاقبة وحبس وترحيل؛ فنحن في عُمان ليس بخافٍ علينا أن من يجلب هؤلاء النساء هم من المواطنين أنفسهم، وهو ما يتطلب تضافر جهود الجميع للحد من تلك الظاهرة ووضع حلول جذرية لها، بأن يعمل كل منَّا بجد -لا يكل ولا يمل- من أجل وقف تلك التجارة اللا أخلاقية، والمحرَّمة دينا، والمجرَّمة إنسانيًّا؛ وإزالة دوافع بيع النساء لأجسادهن مهما كانت مسبباتها؛ فهذا ما يدلنا عليه ديننا الحنيف وأخلاقنا العُمانية المتفردة وسلوكياتنا الإنسانية المنضبطة، وهذا ما يحقُّ لكل إنسان على الآخرين، مهما كانت مِلَّته أو أصله أو جنسه أو لونه، حينها فقط سنكون قدوة للعالم أجمع، نعلِّم الناس كيف تشرق الإنسانية والسماحة مجددا من قلب عُمان.

 

madreen@alroya.info