وطني.. ليتني أستطيع!

 

 

آمال الهرماسيَّة

عندما تُبنى الأصرح يقف الإنسان مُتأملا، مُنبهرا، مُتسائلا: أيُّ عقل بشري قادر على خلق المعجزات وتجسيدها كاملة، مُتكاملة، متراصة، متقنة، متناغمة؟! أيُّ عزيمة أدركت ففكرت فخططت فأنجزت، ووعدت فوفت؟! أيُّ سواعد وعقول وأي عقل مدبر رأى وارتأى فعزم وأقدم فبنى وأنجز وأقام وتحدى؟! أيُّ قلب أبصر فآمن وبصُر وتفانى، فزرع واستمات فحقق وأبدع، وأنتج ذاك الصرح المتين في سنوات ليست لتذكر حتى أصبحت عُمان منارة السلام ووطن الأمان وحضارة ليست لتُهان أو بها يُستهان؟! ذاك هو وطني صَرْحٌ أفنى فيه قائده عمرا سَرَى في عروقنا هِمَّة، وحُبًّا، وولاء، وامتنانا.

ننظر هنا وهناك، فنرى الحياة بكامل أوجه حضارتها وتحضرها تسري من حولنا في حركة متناغمة كأنها كانت من قديم الأزل؛ فاعتادت أنفسنا رغيدَ العيش وسهولة التعايش ولذيذ الأمن ونعومة التعاطي، والعاقل يعلم ألا تدوم الأحوال دهرا إن لم نفنِ من جُهودنا في بقائها أمدا، فالتنعُّم يُوجب العطاء، والرغد يوجب العناء، والنعمة توجب الحمد والثناء.. والاوطان، توجب وتفرض وتلزم بالعمل والاجتهاد والإسهام في البناء.

ومن اليسير وضعيف الإيمان أنْ نركنَ ونطلُب ونتطلَّب دُوْنَ نفض غبار الاستكانة والتذمُّر وعدم الرضا، ومن الكريه أن نزيد على ذلك بالجلد والنقد والسلبية وغلق منافذ الأمل والنوح على ما يجب أن تكون عليه الحال، والحال أننا ننفي الحالة ونطلب الاستحالة.

لو كان حُبُّ الأوطان شعورا ومشاعرا لاقترن شأنه شأن كل الأحاسيس بالأخذ والعطاء، فيتوقف الحبُّ عند انتهاء الأخذ ويبدأ العطاء بميلاد الحب. وتلك لعمري مشاعر بشرية محدودة الوقت والصفة والظرف والزمان. أمَّا حُب الأوطان فهو وجدان غير مشروط، أليس يُقال "بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة"؟!

والجور هو الظلم المقصود الراسي النية العميق الأثر، فما بالك لو كانت بلادي قد أغدقت عليَّ وهلت بنعمها وجزيل عطاءاتها ووافر كرمها!! ما بالك لو كانت بلادي ترسم خطواتها بين الدول لا تبالي بغير أمني وأماني وعيشي وسلامي، فليس لها غير العزة والولاء ولها مني كل العطاء.

ذاك قسم يلزم به الابن نفسه تجاه الأم الحاضنة المربية المتفانية، ليس مكتوبا ولا مشروطا ولا موثقا ولا مفروضا، هو فطرة نترعرع في جنباتها ونتشبَّع دقيقَ ذبذباتها دون توجيه أو تعليم أو تقليد، هي، إما أن تكون أو لا تكون.

بوجه ملؤه الألم وجسد أنهكه العمل، تقطَّع منامه وانشغل باله وترقرقت أدمعه وهو يسأل نفسه: ماذا عساني أن أفعل من أجل هذا الوطن؟! شلت يدي وعجز ساعدي، واحتار فكري وامتلأ صدري، فوطني اليوم ينادي: أين أنتم، وقد طوَّقكم جميلي وأسركم كرمي، وملككم عطائي؟ أين فكركم؟ أين سواعدكم؟ وأين نتاج حصادي؟ فالازمة في أرجائي قد دقت نواقيس الحذر، كفاكم نواحا وندبا، كفاكم نقدا وشكوى، كفاكم تنعُّما وغفلة، فاليوم ليست لتكفيني شعاراتكم وليست لتقويني هتافاتكم وليست لتنقذني مقالاتكم وأصداء تغريداتكم ولغطكم، اليوم، يوم الفعل لا القول، يوم الحركة لا الاستكانة والخضوع، يوم الإسهام لا يوم الانتظار والاستمتاع بالمشاهدة.. اليوم!! نعم اليوم حان وقت الاختبار، اختبار حبكم وولائكم، اختبار نضجكم وعطائكم، اختبار فعلكم وأدائكم، اختبار صدق نواياكم، فمن اليسير الجلوس برفاهة والنظر من العلياء وفك العنان للضعف وحديث النفس وقلة الحيلة بالتذمر وبث الانزعاج ونشر الحيرة وبث آلام اليأس وطمث أنوار الأمل.

ومن الأيسر رَمْي التُّهم وتحميل المسؤوليات والتبري من دقيق المسببات؛ فذاك ليس من البطولة بمكان، وليس للوطنية بعنوان.

أزمة الوطن هي بلا منازع أزمة الفرد، هي صرخة تتداخل في أرجائنا فتختلط بدمائنا فتخرج أفضل ما فينا في صورة الكتلة الواحدة التي إذا تألم جزء منها تداعى لها الكيان بأكمله فارتج وتمايل وأنذر بالسقوط، فمتى ما وعينا وانتبهنا وانصهرنا في تلك الكينونة العظمى حق للضمير داخلنا أن يستيقظ ويستنفر ويتساءل: ماذا عليَّ أن أفعل؟ وماذا عساي أن أضيف؟ وبماذا تراني أسهم؟ وما الذي أوجب علي التغيير؟!

فإن وجدت نفسك هاهنا، فبورك ضمير وحس ووجدان بار بأصله وفيٍّ لمقامه، مُحب لوطنه مُخلص لربه، مؤدٍّ لأمانته.

من حيث أنت، وبعيدا عن ضوضاء القول وكثير الكلام وتواتر الأقوال، كُن فاعلا، مساهما، مدركا، متفانيا، مقبلا، منجزا، وأدرك أنك "عنصر" لا "كل"، وجزء لا ملم، وإن رأيت قدراتك محدودة، ويدك مغلولة ومسؤولياتك دنيا، فاعلم أن من صغير الأمور جاءت عظام الأجور، ومن بعض العمل جاء كبير الإنجاز، ومن صدق النوايا تفجَّرت الأحجار ينابيع وأنهارا، فتدفقت وأروت فاخضر القحل من حولها ونمت المزارع وربت.

كما شئت سَمِّها، أزمة أو بوادر أزمة، فما ذاك إلا وضع يدعو إلى ترك الاستكانة والتشمير عن ساعد العمل والجد، بالقليل أو الكثير؛ فالأهم أن يكون بالمستطاع، فذاك وطن يستحق، وهذه أرض اعتمدت على رجالها، فغدا ستذكر لأحفادك جميل أثرك وتنقله ليسري في دمائهم وطنية وإخلاصا، أولست تعلم أنه أغلى ما تورثه لقادم الأجيال حُسن تربيتهم، وكيف تستقيم التربية دون شعور بالمسؤولية والانتماء وحب الأوطان.

أبشري عمان وقري عينا، فتحت القيادة الحكيمة العادلة، رجل يسأل نفسه ويحاسبها: "ماذا بوسعي أن أفعل من أجلك". به وبأمثاله سيكفيك الله شر المحن وسوء المنقلب، وبه وبأمثاله، ستتجاوزين الصعاب وتنعمين بالرخاء، فما ضاقت واستحكمت حلقاتها إلا فرجت، وقد ظن ضِعَافنا أنها لن تفرج.

amel-hermessi@hotmail.com