ما لكم كيف تحكمون؟! (1)

 

 

سلطان الخروصي

(1)

في خضم مؤشرات تطورات التعليم العالمي وتحوله من الركاكة الكمية إلى الجودة النوعية، نجد ثمَّة بصيص أمل (نظري) في تطور منظومة التعليم بالسلطنة، إلا أن المتابع لمؤشرات الحقل التربوي يجد أنَّ الواقع يُوحي بركود مخيف وغسق عميق في استشراف المستقبل التعليمي، فذات مساء لمعت وزارة التربية والتعليم في استقطاب بيوت خبرة متمرسة في سبيل وضع معايير عالمية بهوية وطنية عمانية لصناعة المناهج العصرية، فصرفت مئات الألوف لتحقيق ذلك، وبين غمضة عين وانتباهتها انقضى كل شيء وكأن طيراً أبابيل نسفف ذلك المشروع الوطني!

مشهد آخر تجسَّد في مشروع تصميم قانون التعليم، والذي كان من المؤمل أن يضع الخطوط العريضة في تطور أركان العملية التعليمية من المعلم، والطالب، وسن القوانين الإدارية والوظيفية المنظمة، وحماية الكادر التدريسي من انفعالات المجتمع وطيشه، وخلق فرص تحفيزيه وتعزيريه؛ من أجل بناء بيئة تربوية رائدة وناجحة، حينها تهافتت الأخبار الشاردة والواردة حول هذا المشروع الوطني الضخم، وضخت لأجله جهودا جبارة، وأغدقت عليه أموالا طائلة، وأجزلت له أوقاتا سخية وأخرى عصيبة، ثم وكأن أمرا لم يكن، ولسان الحال يردد "يا زيد كأنك ما غزيت"، فأين قانون التعليم الذي بدأ وضعه وتصميمه ودراسته وتمحيصه قبل الشروع في قانون المرور الذي اعتمد مؤخرا وحصل على مباركة سامية؟ هنا نتساءل عن القيمة الحقيقية لوضع مثل هذا القانون؟!

صُورة أخرى للواقع التعليمي تتجسد في درجة الاهتمام بالكوادر الأكاديمية المنتجة في الحقل التربوي، والتي تمتلك مهارات بحثية وتدريسية وبعضها يمتلك مهارات مميزة في الإعلام والصحافة والقيادة وغيرها، فكثير من هذه النماذج القيمة والتي تمتلكها وزارة التربية والتعليم ويغبطها كثير من المؤسسات الأخرى لا تزال مقبورة في الميدان التدريسي بينما المؤسسة بحاجة ماسة لمتخصصين بالخبرة والممارسة والشهادات معا في هكذا مجالات يثرون الحقل التربوي، فكم هي تلك النماذج التي نسمعها تتحدث من واقع مزري ويائس بائس مقابل ما تمتلكه من رصيد هو بمثابة ثروة يمكن استغلالها في دفع عجلة تجويد التعليم، لكن لأسباب واهمة وهزيلة تضل هذه الأقلام والعقول حبيسة فوضوية التقييم والتقدير والقرارات، ويلقى بها في غياهب اللامسوؤلية  على الرغم من أن مخرجات الدراسات العليا من وزارة التربية والتعليم لا يتجاوزا حسب إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات 12% فقط من بين الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى! فكيف لي أن أطور المناهج، أو أحفز الكادر التدريسي، أو أقدم نقلة نوعية في الإعلام التربوي والإنتاج الدرامي التربوي، أو الدراسات البحثية الأكاديمية والاستطلاعية وأنا أقصي المتخصصين والمبدعين لحجج واهية؟! ثم أتساءل: لماذا تهرب عقول الأكاديميين في التربية بالاستقالات ونقل الخدمات إلى مؤسسات أخرى ونحن بأمس الحاجة إليها، فما لكم كيف تحكمون؟!

 

(2)

لا يكاد يمر أسبوع أو أقل إلا وتجد خبرا يتلى على مسامعنا عن غش تجاري أو غذائي أو صحي تظهره جهود البواسل من أبناء هذا الوطن الغالي من أفراد الهيئة العامة لحماية المستهلك، فهناك قضايا متلونة ومتشعبة نسمعها بين حين وآخر تظهر لنا الكم المهول في حرفية استحلاب جيوب المستهلكين دون وجه حق؛ فمن يتصفح مؤشرات وإحصائيات الضبطيات والمخالفات والأحكام القضائية الصادرة في حق المستهلك والمرفقة في موقع الهيئة يلحظ "لا مبالاة" في شراهة الغش وعبادة الريال لدى كثير من المؤسسات التجارية والخدمية مهما كانت الجهود ومهما أظهرته الهيئة من بيانات وتقارير؛ ومثل هذه الممارسات المتكررة والأضرار الجسيمة التي تنتهك حق الوطن والمستهلك تظهر أن الأمر بحاجة ماسة وملحة وعاجلة لإعادة بناء قانون حماية المستهلك، على أن تكون هذه المبادرة منطلقها الجهات العليا، فمثلما أولت الحكومة للتاجر أن ينعم بالامتيازات والتسهيلات؛ فتمطر عليه سماء البلاد ذهبا كان لابد من عزم وحسم بأن تكون حقوق المستهلك هي الطرف الأهم في هذه المعادلة؛ وذلك لا يتأتى إلا بسن قانون له اعتباره وثقله الذي يحقق التوزان والانتعاش الاقتصادي للطرفين؛ لذا ينبغي أن تُسند الهيئة بـ"ظهر شديد" يكفل لها القانون الضبطي والقضائي والقرارات النافذة المستقلة، على أن تتمتع باستقلالها الإداري والمالي والذي يحفظ لها صورتها الاعتبارية بين جميع المؤسسات المعنية بالخدمات والإنتاج.

هيئة حماية المستهلك بحاجة لدعم المتخصصين في المجالات الحيوية الرائدة، وبحاجة إلى أكبر درجة اتفاق بين أعضاء مجلسي الدولة والشورى في سن قانون رصين وأصيل يكفل التسهيلات للتاجر على أن تحفظ حقوق الوطن والمستهلك بكل تفاصيلها، فلا أن تكون بطوننا مرادمَ للنفايات، ولا مواد استهلاكنا الكمالية محضَ تجارب سرطانية، ولا قنطار علاجنا بمثابة جرعة هيروين قاتلة، فكيف لنا أن نطالب الهيئة بجهود مضنية وكبيرة وبعض مؤسساتنا السيادية لا تعيرها أي اهتمام أو اعتبار؟ بل لا تسعى لأن تكون لها السمة الاستقلالية ثم ينادون بضرورة الحفاظ على الاقتصاد الوطني والحد من قطع عموده الفقري بالغش والكذب، فما لكم كيف تحكمون؟!

sultankamis@gmail.com