هجرةٌ لا بد منها

 

 

عيسى الرَّواحي

يعيشُ المسلمون هذه الأيام ذكرى حادثة الهجرة النبوية الشريفة -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- تلك الحادثة العظيمة التي غيَّرت مَجْرى التأريخ في حياة المسلمين، وتأسَّست على إثرها الدولة الإسلامية المدنية بجميع أركانها ومعالمها في المدينة المنورة، وقد تحدثت في مقالات سابقة عن هذه المناسبة الجليلة، وما حوته من دروس وعبر كثيرة لا حصر لها، ويحتاج إليها كل مسلم أيًّا كان موقعه.

وبما أنَّنا نُودِّع عاما هجريا مليئا بالأحداث والمواقف والذكريات، ونأمل أن نعيش عاما هجريا آخر يكون حافلا بالخير واليمن والبركات، فإننا مطالبون على صعيدنا الشخصي بأن نُحدث في حياتنا هجرةً لا بد منها؛ بحيث يكون المسلم دائما مهاجرًا إلى الله ورسوله.

فإذا كانت الهجرة في معناها اللغوي تعني الانتقال من مكان إلى مكان آخر بقصد العيش والبقاء فيه، فإنَّ معناها العام أوسع وأشمل من ذلك، يوضحه حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".

وعليه؛ فإنَّ الهجرة التي لا بد أن يُحدثها المرء في حياته هي هجرة الذنوب والمعاصي والآثام بحيث يتركها ولا يقترب منها، وهذا النوع من الهجرة هو أفضل أنواع الهجرة إلى الله تعالى، فقد سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أي الهجرة أفضل؟" فقال -صلى الله عليه وسلم- "أن تهجر ما كره ربك عز وجل".

إنَّ سرعة انقضاء الأيام وتعاقُب الشهور والأعوام، واقتراب المرء من أجله المحتوم، ونقصان عمره المحدود، وفي توديعه عاما واستقباله عاما آخر، يجب أن يجعله أشد حرصا على إحداث هجرة الذنوب والمعاصي في حياته دون تسويف أو تهاون؛ فهو لا يدري متى يوافيه الأجل، وتتوقف مسيرة حياته "...وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان:34).

ومما هو معلوم أنَّ اقتراف الذنوب والمعاصي والآثام إنما هو شؤم وهلاك وبلاء على صاحبه، ومجلبة لخسران الدنيا والآخرة، ودمار للمجتمعات والشعوب، وإذا كان باب التوبة مفتوحا لمن أراد ولوجه وهجرة ما نهى الله عنه؛ فعلى المرء ألا يخدعه طول الأمل ويغره زهو شبابه ووافر صحته؛ فهذا الباب قد يوصد أمام المرء في أي لحظة ولا يُمكن حينها فتحه، وما أكثر الذين أوصد أمامهم باب التوبة حينما وافاهم الأجل بغتة! فرحلوا من هذه الدنيا دون أن يحدثوا أهم هجرة في حياتهم، ومن كانت هذه حاله أي مات عاصيا لله ورسوله ولم يتدارك نفسه بالتوبة قبل فوات الأوان فبئس المصير: "وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ" (النساء:14).

فإلى متى هذه الغفلة وهذا الغرور؟ّ! وإلى متى يظلُّ آكل الربا وسارق الأموال وخائن الأمانة وشارب الخمر وعاق الوالدين ومرتكب الفواحش وتارك الصلوات وبذيء اللسان على حالهم؟! أما آن الأوان لكل عاصٍ أن يعود إلى رشده، ويتوب إلى ربه، ويهجر ما نهى الله ورسوله عنه؟!

إنَّ سعادةَ المرء وراحته واستقرار المجتمع وأمنه وعيش أفراده في هدوء وسكينة واطمئنان، لا يُمكن أن يتحقَّق ما لم نُحدث هذه الهجرة التي أمرنا الله بها، ونؤدِّي الرسالة والهدف الذي من أجله خلقنا "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات:56).

والعبادة في هذا الزمن المليء بالفتن والأهواء والملذات إنما هي هجرة أخرى مباركة حري بالمسلم أن يثبت عليها مهما اشتدث الفتن والمغريات، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- "العبادة في الهرج كهجرة إلي"، والمقصود بالهرج إنما هي الفتن.. والله المستعان.

issa808@moe.om