الأخلاق.. "كروموسوم" الإدارة الناجحة (2)

 

 

 

عمَّار الغزالي

لا يختلفُ اثنان حول فرضية أنَّ مُعظم مُشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية هي بالأساس انحراف أخلاقي يستوجب التقويم؛ وقد ناقشنا في المقال السابق شمولية القيم الإسلامية في حفظ مكوِّنات المجتمع عمومًا، والاقتصاد على وجه الخصوص، والإدارة بصورة أكثر دقة؛ وشدَّدنا على ضرورة استلهام موجِّهات القيادة الإدارية من شريعتنا الغرَّاء، وأن تتحوَّل تلك القيم إلى سُلوك يَوْمي في حياتنا الخاصة والعامة، وفي مُؤسساتنا وبيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا؛ من خلال تقوية وعي الجميع بأهميتها وتعليمها للأجيال بالقدوة حتى تسود وتصبح السمة الغالبة على طبائعنا.

وباعتباره حجر الزاوية في مُعادلة "الإدارة بالأخلاق"، فإنه من الضروري أن تتشكل لدى الموظف ابتداءً رغبةٌ داخلية في التحلي بالسلوك الإيجابي في مجال الخدمة العامة؛ من خلال موقعه الوظيفي -وهو ما اصطلحنا عليه في المقال السابق بـ"السلوك الوظيفي"- واحترامه لذاته والآخرين من زملاء المهنة (هذا من جهة)، ولمراجعي المؤسسة/الجهة التابع لها (من جهة أخرى)، بأن يُغلِّب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، مُلتزماً باللوائح والنُّظم التي تكفل سير العمل بالشكل السليم الذي يُحقِّق غاية المؤسسة/الشركة، ويحفظ حقوق المراجعين، وبنفس القدر حقوق الموظفين.

وبالطبع لسنا هنا بصدد الحديث عن نجاعة القوانين واللوائح والأنظمة، وحُسن أو سوء تطبيقها، والحرص على إنفاذ القانون وسيادته، وإنما بصدد الحديث عن القيم الأخلاقية الأساسية المنظِّمة للعمل الإداري؛ باعتبارها مجموعة القواعد والمبادئ المجرَّدة التي يخضع لها الإنسان في تصرفاته، ويحتكم إليها في تقييم سلوكه؛ فلكل وظيفة أو مهنة من المهن قيم ومبادئ ومعايير أخلاقية، ومعرفة علمية وأساليب ومهارات فنية تحكم عمليات المهنة وتحدِّد ضوابطها، التي تستلزم من الموظف القيام بها ليس فقط لأنه يتقاضى راتباً من أجل القيام بها، بل التزاماً وإيمانا بقدسية العمل أو الرسالة التي يُؤديها.

وتُجمع الشواهد القرآنية والنصوص النبوية المشرَّفة، وبفهم الأولين وتجاربهم، على عِدَّة خصال تحتكم إليها سلوكيات الموظف المسلم الكفء؛ ينظمها جميعا تحقيق مراد الله في عباده بتحقيق التقوى؛ قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدَّمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون"، ومراقبة الله -عزَّ وجلَّ- طالباً الثواب منه، قائماً بواجبات وظيفته، مبتغياً مرضاة خالقه، خائفاً من عقابه العاجل والآجل، وأن يضع في حسبانه أنَّ الله فوقه يُراقبه ويحاسبه ويجازيه.. ومن هذين المنطلقين تتشكل قناعاته الداخلية وسلوكياته الخارجية.

وباكتمال عقد هذين المُعطيين، تتشكل اللبنة الأولى في هيكلية "السلوك الوظيفي"، وهي: الأمانة؛ وهي مفهوم واسع ومتشعِّب يتداخل مع باقي الأخلاقيات والقيم؛ فبها يكبح جماح أهوائه وشهواته، ويلتزم بما أوجب عليه، فيبتعد عما حرَّم الله مهما تعرَّض خلال وظيفته لمغريات -سواء مالية أو غير مالية- كالرشوة وإيثار مصلحة نفسه على مصالح أصحاب الحقوق، والإضرار بمصالح الناس.. فتجده أمينا صادقا عادلًا عفيفا رفيقا ومتواضعا؛ فلا ينظر إلى المراجعين على أنَّهم دونه، بل من منطلق أنه الله صيَّر حوائجهم إليه بمقتضى وظيفته، فيحذر "الغلول"، وهو اختلاس أي شيء من الأموال العامة، ومنه سرقة وقت الوظيفة بغير حق أو إِذن من رب العمل؛ إذ في هذا تضييع لحقوق الناس وأوقاتهم ومصالحهم، أو الانصراف عن مصالح العمل والمراجعين وأصحاب المصالح، والتنصل من مواجهتهم وقضاء حوائجهم، وهو ما أطلق عليه شرعنا الحنيف "احتجاب الراعي عن الرعية"، وما يترتب عليه من تعطيل مصالحهم، وفي ذلك يقول الرسول الكريم: "من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره".

كما يتوجَّب على الموظف أن يُطيع رؤساءه في الأوامر التي يُصدرونها إليه، استناداً لقوله سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم"، شريطة أن تكون الطاعة بالمعروف، وحتى إن كره الموظف من رئيسه شيئاً فيجب أن لا يخلط بين ذلك وبين الطاعة بالمعروف للأوامر.  والعكس صحيح تماما ، فكم يكبر في عين المرؤسين؛ الرئيس الذي يحترم مرؤوسيه ويتودد إليهم ويرفق بهم ويتواضع لهم، كذلك الابتعاد عن المحاباة والمحسوبية؛ باعتبارهما أولى خطوات الفساد الإداري وتضييع المصلحة العامة؛ فهي تقدِّم منفعة لبعض الناس وتفضلهم على الآخرين؛ بما يُخل بمبدأ تكافؤ الفرص والعدل والمساواة.

صحيح أنَّ الحديث عن أخلاقيات الوظيفة والعمل، إلا أنَّه من الضروري كذلك التنويه بحقوق الموظف -وهذا الموضوع جدير بالتوسعة فيه- والتي تُعتبر ضمانة -حال توافرها بالشكل المُرضي، والعادل والإنساني كذلك- تعينه على القيام بواجباته الوظيفية؛ إذ هي ليست مفصولة تماماً عن واجبات الموظف؛ فكما قيل: "بعض الواجبات ينتج عن بعض الحقوق". ومن جُملة تلك الحقوق: الرواتب والأجور؛ ويدخل في حساب هذا الأجر الأعمال الإضافية التي يقوم بها الموظف والتعويضات المختلفة، وكذا: الترقيات الإدارية؛ إذ من حق الموظف شغل المناصب الإدارية الأعلى من حيث الترتيب الهيكلي وطريقة تنظيم العمل والخبرات والشهادات ومتطلبات العمل، وأيضا الإجازات بأنواعها، والحماية القانونية للموظف؛ وأعني بها مواد قانونية ملزمة تحمي الموظف أثناء قيامه بمهامه مما يمكن أن يهدد أمنه أو جسده أو كرامته من الامتهان.

ومن جُملة القول.. إنَّ مبدأ "السلوك الوظيفي" أو أخلاقيات المهنة مسألة بديهية؛ تُمثل ركنا مُكمِّلا لما تعتمده المؤسسة أو القطاع -بل والحكومة والدولة بشكل أوسع- من فكر ومنهاج عمل يقوم على أساس الارتقاء الذي يتَّسع مفهومه ليشمل منظومة العمل ومعايير الأداء، فضلا عن سلوكيات التعامل في بيئة العمل، بما يضمن تحقيق الولاء والانضباط وتحسين الإنتاجية وإتقان العمل؛ وبالتالي مقدرة اقتصادية وتنافسية أعلى؛ تعكس عُمق الإيمان الحكومي باتباع أساليب الإدارة الحديثة الشاملة التي تصنع جداراً فولاذيًّا يحجب ضوء الفساد الإداري عن مراعي مؤسساتنا وقطاعاتنا المختلفة؛ فتنبت تجربة تنموية نقية، غضة طرية، لا يعرف "أصحاب النفوس الضعيفة" إليها سبيلا، وتتقطع السُّبل بالعابثين بمُقدِّرات هذا الوطن.

وأختمُ مُسترشدا بالنطق السامي لمولانا المعظم -حفظه الله ورعاه- والذي أكد عليه في أكثر من موقف: "إنَّ ثقتنا كبيرة بلا شك في أنكم أهلٌ لحمل الأمانة، وأملنا عظيم في أنكم ستؤدون مهامكم بكل اقتدار وبروح الانتماء والوفاء لهذا الوطن العزيز".. فهل سنكون محل هذه الثقة السامية؟!