لُغة الحوار ..

 

هلال بن سالم الزيدي

تُعتبر لغة الحوار العقلاني/ الإنساني من اللغات المُهمة في حل القضايا العالقة بين طرفين والتي بطبيعة الحال ابتعد عنها الكثيرون في أروقة العمل الإنساني أو أيّة بيئة إنسانية المغزى والمعنى، وما أقصده هنا في هذا المقام، هي تلك اللغة التي تعترف ببداية ونهاية حدود الكلام مرورًا بمرحلة الإنصات، والإيمان بأنّ التعصب للرأي هو المعول الذي يهدم منظومة الحديث بطريقة واضحة عن طريق  الانجرار إلى رأي واحد أو تبني فكرة واحدة وتجاهل الآراء الأخرى، بمجرد أنّها تختلف مع "الضد".

لذلك ومع اعتلاء الثورة المعلوماتية منصات الحديث ازدادت الرغبة إلى حُرية التعبير مهما كان هذا التعبير وما يفضي إليه، فقط لمجرد تحرير اللسان من معضدها لتقذف بما لديها في اتجاهات متعددة، وعليه انتشرت العديد من نماذج الحوارات التي يُطلق عليها "حوارات الطرشان"، المُتكئة على الصراخ وعدم الالتزام بأدبيات الحديث والفوائد التي يُمكن أن يجنيها المُتحدث والمنصت، وبالتالي فقد ذهبت كل الأحاديث أدراجها ما أن ينتهي ذلك التجمع أو تلك اللقاءات لأنّها لم تؤطر بمبادئ وسلوكيات تُقدّم لمُنصِتٍ خلاصة حول قضية مُعينة.

... إنَّ الحوار المبني على قيم التَّبادل المعرفي وتقييم الأفكار الإنسانية، هو أحد علامات التَّطور الحضاري الذي تشهده المُجتمعات، وهو دليل النضوج الديمقراطي والنُّمو الثقافي الذي يُساهم في بناء الشخصية الإنسانية، ومما لا شك فيه أنَّ هذا الحوار سيعمل وفق مصلحة الجماعة/الفرد/الوطن.. من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاعتراف بالحقوق التي يجب أن ينالها البشر في منظومة الكتاب المنظور"الكون"، والتي دلل وأكد عليها الكتاب المسطور"القرآن الكريم"، من هنا كانت ولا زالت وسائل الإعلام بمُختلف أدواتها المنبع الذي يُقدِّم فلسفة الحوار للمُنصٍتين عبر طرح القضايا التي تمس الرأي العام، شريطة ألا تميل هذه الحوارات إلى فئة أو تتعصب لرأي دون غيره، وهذا يتشكل لمجرد معرفة توجه تلك الوسيلة والهدف منها، ومع التعدد السريع لتلك الوسائل، فقد بات ظهورها وتشكلها يعتمد على فلسفة فردية لأفراد يمتلكون قوة المال/المنصب، وبالتالي فهي تُعبر عن توجهاتهم الفردية وتزكّي أيدولوجياتهم التي ينظرون إليها من زاوية ضيقة في التقدير والهدف.

يعد منهج نسف الحقيقة والتجرد من الإنسانية هو الأسلوب الذي يتّبعه الكثيرون في التوشح بوشاح الحوار، فكلما كانت الحقيقة مُغيبة فبالتأكيد أن لغة الحوار لا تتشكل ولا تُحقق الفائدة التي تصل إلى المجتمع، فيكون التمسك بالباطل أثناء الحديث العملة البارزة التي يناقش بها ذلك "الفرد" الآخرين، بسبب ضعف اجتماعي لديه، وحب السيطرة ونبذ الطرف الآخر لمجرد أنّه يختلف معه في شخصيته، فتكون المناظرة الحوارية "شخصية" وليست فكرية، لذلك نشأ ما يسمى "بشخصنة الأمور"، والتَّحول إلى النقد الهدّام الذي لا يُراد له إلا الإطاحة بـ "س" من النَّاس لأنه اختلف معي ولم يترك الحبل على الغارب.

نشأ التعصب الفكري بعد الانحراف الذي خلفه الحوار المبني على اتجاه واحد فقط، وهو اتجاه المُتحدث الذي حاد عن العقل في نقاشه عبر إصداره لحُكم مُستعجل تجاه قضية مُعينة، منتهج القوالب المصطنعة أو الجاهزة كالعزف على الطائفية/ القبلية/الجنس، أو الاعتماد على أسطوانة مشروخة من كثر ما تُلاك بالألسن والتي بدورها لم تقدم ما يُفيد الطرف المُنصت لتجليات الحديث، ويُعتبر الجمود العقلي أحد الأسباب الأكثر شيوعًا في ثقافة الحوار والتي أودت بلغة الحوار إلى الحضيض، حيث يقوم ذلك "المتحدث" بتعميم أحكامه الهزيلة على الكثير من الأمور لرغبته في تسيّد المواقف كافة لتقديم شخصيته المليئة بالعيوب بأنّها كاملة عبر بوابة التحكم التي يعيشها هو(المنصب/ المال..) وبالتالي لا يُسمح للآراء الأخرى بالمرور ضمن تلك المنظومة (العمل/المجتمع/الأسرة...) من مبدأ الانتصار الذاتي لأفكاري مهما كانت هذه الأفكار.

عند الحديث عن لغة الحوار والتعصب المقيت الذي سيطر عليها يتبادر إلى أذهاننا الحيل الفكرية القائمة على الإيمان المطلق بالمعتقدات الفردية، والتي أكد عليها الباحث والمُفكر الأمريكي "ميلتون روكيش" ضمن مفهوم "الدوجماطيقية"، حيث ورد تعريفها في موسوعة "لالاند الفلسفية" (وهو معجم فلسفي وضعه الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند (1867-1963) بأنها أي: الدوجماطيقية/ الدوغمائية / Dogmatism ﻫﻲ ﺣﻴﻠﺔ ﻓﻜﺮﻳﺔ ﻣﺨﺎﺗﻠﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺗﺄﻛﻴﺪ ﺍﻟﻤﺮﺀ ﻟﻤﻌﺘﻘﺪﺍﺗﻪ ﺑﺄﻣﺮ ﻭﺳُﻠﻄﺎﻥ، ﻭﺩﻭﻥ ﺍﻟﻘﺒﻮﻝ ﺑّﺄﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﺤﺘﻤﻞ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺺ ﺃﻭ ﺍﻟﺨﻄﺄ ﺃﻭ ﺃﻥ ﺗﻄﻮﻳﺮﻫﺎ ﻻﺯﻡ ﻭﺿﺎﻣﻦ ﻻﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻓﺎﻋﻠﻴﺘﻬﺎ. وقد انطلق "روكيش" من مفهوم "الصرامة العقلية" ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﺘﻮﺻﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﻠﻮﺭﺓ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ لمفهوم ﺍﻟﺪﻭﻏﻤﺎئي/ الدوجماطيقي، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻋﺮّﻓﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻋﺪﻡ ﻗﺪﺭﺓ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻋﻠﻰ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﺟﻬﺎﺯﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﻱ، ﺃﻭ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﻄﻠَّﺐ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﺍﻟﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺫﻟﻚ، ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺇﻋﺎﺩﺓ ﺗﺮﺗﻴﺐ ﺃﻭ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﺣﻘﻞٍ ﻣﺎ، ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻴﻪ ﻋﺪﺓ ﺣﻠﻮﻝ ﻟﻤﺸﻜﻠﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻬﺪﻑ ﺣﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺸﻜﻠﺔ ﺑﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺃﻛﺒﺮ، كما وضّح "ميلتون روكيش" أنّ العقلية  اﻟﺪﻭﻏﻤﺎﺋﻴﺔ ﺗﺮﺗﻜﺰ ﺃﺳﺎﺳًﺎ ﻋﻠﻰ ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ ﺿﺪﻳﺔ ﺣﺎﺩﺓ، ﻭﺃﻧَّﻬﺎ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺸﺪﺓ ﻭﺑﺼﺮﺍﻣﺔ ﺑﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻟﻌﻘﺎﺋﺪﻳﺔ، ﻭﺗﺮﻓﺾ ﺑﻨﻔﺲ ﺍﻟﺸﺪﺓ، ﻭﺑﻨﻔﺲ ﺍﻟﺼﺮﺍﻣﺔ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺃﺧﺮﻯ، ﻭﺗﻌﺘﺒﺮﻫﺎ ﻻﻏﻴﺔ ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻬﺎ، ﻭﻟﺬﻟﻚ ﻓﻬﻲ ﺗﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤﻤﻨﻮﻉ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﻓﻴﻪ، ﺃﻭ ﺍﻟﻤُﺴﺘﺤﻴﻞ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﻓﻴﻪ، ﻭﻳُﺤﺪﺩ ﺭﻭﻛﻴﺶ ﺍﻟﺪﻭﻏﻤﺎﺋﻴﺔ ﻓﻲ ﺛﻼﺙ ﻧﻘﺎﻁ، ﺃﻭﻟﻬﺎ ﺃﻧَّﻬﺎ ﺗﺸﻜﻴﻠﺔ ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﻣﻐﻠﻘﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻨﺎﻋﺎﺕ/ ﻭﺍﻟﻼﻗﻨﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻮﺍﻗﻊ" ؛ وثانيها: ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺘﻤﺤﻮﺭ ﺣﻮﻝ ﻟﻌﺒﺔ ﻣﺮﻛﺰﻳﺔ ﻣﻦ "ﺍﻹﻳﻤﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﻴﻘﻴﻨﻴﺔ"، ﺫﺍﺕ ﺍﻷﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ؛ ﻭثالثها: ﺃﻧﻬﺎ ﺗﻮﻟّﺪ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﺘﺴﺎﻣﺢ ﻭﺍﻟﻼﺗﺴﺎﻣﺢ ﺗﺠﺎﻩ ﺍﻵﺧﺮ، وهذا ما أشار إليه الكاتب الليبي محمد أقميع في مقالة له في بوابة الوسيط الإلكتروني عام 2014م.

إنّ الانفصام الحواري الذي تُعانيه الأوساط الأدبية (الثقافية والإعلامية) ولّد ثقافة العمل الفردي وعدم الإيمان والاتفاق حول القضايا الجوهرية التي يجب أن تتحلى بها فلسفة الحوار على أبعد مستوياتها، بدءًا من الأسرة مرورًا بالبيئة العملية وليس انتهاءً بالمجتمع كافة، لذلك ظهرت الكثير من الأصوات التي لا تحيد عن مصالحها قيد أنملة في تأثير هذه اللغة، من هنا سادت لغة الصمت والاكتفاء بما يُمليه الآخرون، فمبجرد اختلافك عنهم فأنت تمثل لهم تهديدًا يجب أن يُقصى حتى تنتهي الأصوات التي تؤمن بلغة الحوار والتفاهم لتحقيق إستراتيجيات رسمت كشكل فقط، لذلك أصبحنا نُغرق في رسم سقف توقعاتنا المبنية على الخيال المفارق للواقع جملة وتفصيلاً، لتكون الغلبة لمن قال: نعم/ موافق/ في كل تعامل يجمعه بالأطراف الاجتماعية الأخرى، وقد ساعد هذا التوجه على نشوء الشخصيات التسلطية أو "الطغاة" التي تنتهج تمجيد أصحاب النفوذ المالي /المنصب، أو ما يُسمى تكريس الطبقية الاجتماعية واستغلال الضعفاء الذين يلهثون خلف المادة بكل تفاصيلها، لأنّ الرأي هنا رأي مستبد وفردي.

همسة:

إلى أولئك الذين يتقنّعون بعبارة" الاختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية"، أو القائلين: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب".. كفاكم لأننا أدركنا أنّها أقنعة ستسقط لا محالة يومًا من الأيام.. لذا وجب عليكم أن ترتقوا بلغة الحوار ليذكركم التاريخ في دورانه، والأيام دول.

 

كاتبٌ وإعلامي

abuzaidi2007@hotmail.com