لنهديه دعوة بظهر الغيب..!

 

 

عائشة البلوشيَّة

انتهى حجُّ العام 1437 هجري بسلاسة، وانقضى العيد الأضحى المبارك بعد أن استمتع من استمتع بإجازة جميلة، ورابط من رابط -جزاهم الله عنا خير الجزاء- على الحدود أو في المناوبات العسكرية أو المدنية أو المؤسسات الخاصة، وعادت أغلب وفود الحجيج إلى بلادها، ويأتي حج كل عام ليذكرنا بحجة سيدنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- التي كانت في العام العاشر للهجرة؛ حيث ودَّع -صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله- جميع المسلمين فيها، واستودعنا الأمانات لنحفظها إلى يوم الدين، وجاء الإعلان الرباني الختامي بنزول قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً" (المائدة:3)، واليوم أردت أن أستذكر معكم شخصية لا أدري ما الذي يجعلني أتذكرها يوم وقفة عرفة، ربما ﻷنه عُماني، وﻷنه كتبت له السعادة بلقاء خير من وطِئ الثرى، لا أدري ولكننا نُكنُّ لهذه الشخصية الامتنان والدعاء، حيث قطع المسافة من بلدة "الدقدقين" ذات الخضرة الوارفة والمحاصيل الزراعية المتنوعة في "سمائل"، وجاب الفيافي والقفار حتى وصل إلى المدينة المنورة في العام السادس من الهجرة، في رحلة شوق روحانية، تتلمَّس طريق الهدى، بعد أن كان سادنا ﻷحد الأصنام في بلدته، حملته اللطائف النورانية إلى حيث الحبيب -صلى عليه ربي وسلم- فوفد عليه مع نفر من قومه، وﻷنه كان قد حرث أرض قلبه بالشوق للإيمان بالله تعالى فقد كان إعلان إسلامه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد وصوله إلى يثرب ومثوله بين يدي الرسول الكريم.

وكما جاء في الحلقة السادسة عشرة من برنامج "رجال حول الرسول"، التي بثتها قناة العربية في السادس من شهر سبتمبر عام 2009م، فإن نسب الصحابي مازن بن غضوبة يعود إلى قبيلة طيء، وكان لهذا الصحابي الجليل الأثر الكبير في انتشار الإسلام في عُمان قبل وصول الرسالة الشهيرة إلى عبد وجيفر ابني الجلندي بعد إسلامه بعامين؛ فقد قام ببناء مسجده الشهير والموجود حتى يومنا هذا في ولاية سمائل، بعد عودته من المدينة المنورة مباشرة، والذي كان له الدور في نشر الإسلام في تلك الفترة، وﻷنني أركز على مكامن الجمال في الخُلق العُماني، فإن أجمل ما شدني منذ طفولتي في قصة إسلام هذا الرجل الجليل هو الحب العظيم الذي يكتنفه ﻷرضه وأهله، فبعدما أسلم مازن بين يدي الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- سأله أن يدعو له بالهداية، فدعا له، ثم سأله بأن يدعو لأهل عُمان، فقال صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: "اللهم اهدهم، فقال مازن: زدني يا رسول الله، فقال: اللهم ارزقهم العفاف والكفاف والرضا، فقال مازن: يا رسول الله إن البحر ينضح بجانبنا، فادعُ الله في ميرتنا وخفنا وظلفنا، فقال النبي الكريم: اللهم وسّع لهم وعليهم في ميرتهم، وكثّر خيرهم في بحرهم، فقال مازن: زدني، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: اللهم لا تسلّط عليهم عدواً من غيرهم، قل يا مازن آمين، فإن آمين يُستجاب عندها الدعاء، فقال مازن: آمين"، وفي رواية أخرى أن مازن قدَّم سؤاله بالدعاء لعُمان قبل سؤاله بالدعاء لنفسه؛ ومهما يكن وأيهما سأل أولا، فلله درُّ هذا الرجل ما أكرمه، سأل أجود من سأل ومن لا يرد له دعاء أن يدعو لعُمان، وبلغت به الأثرة أن ينسى نفسه من طلب الجنة أو أي نعم دنيوية أو أخروية، بل طلب الهداية لنفسه، أما لبلاده فقد ظل يستزيد ويستزيد من ذلك المعين المحمدي الطاهر حتى غطى كل مطالب محب لحبيبته، وظلت تلك الدعوات الطاهرات وستظل تغلف أرضنا الحبيبة وأهلها منذ ألف وأربعمائة وسبعة وثلاثين عاما إلى يوم يبعثون.

دعاها الحبيب المصطفى -صلوات ربي وسلامه عليه- وهو الذي عرف شيم أهل عُمان وخلقهم قبل ذلك عندما قال: "لو أهل عُمان أتيت ما سبوك وما ضربوك"، وهو الذي كانت إحدى صفاته القرآنية: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى" (النجم:3)؛ لذلك فهذه هي الصفات التي أكدها -عليه الصلاة والسلام- والتي يجب أن نجدِّدها في أرواحنا مع كل حج، وأن نتطهَّر من الأخلاق التي يكرهها الله ورسوله، وأن نثبت مكارم الأخلاق في جميع معاملاتنا قولا وفعلا، وأن نغرس هذه المعلومة في قلوب أطفالنا بأنَّ الرسول الكريم أحبَّ فينا هذه الأخلاق وخصَّنا بذكرنا بها بين أمته جمعاء؛ لذلك وجب علينا التحلي بها إلى الأبد.

أمَّا هذا الصحابي الجليل مازن بن غضوبة الطائي -رضي الله عنه- فقد علَّمنا درسا عظيما بأنه أولا قدم بخير الدعاء كل عُماني على نفسه، فاستزاد لهم من الدعاء على لسان خير من دعا، وأما ثانيا فقد علمنا بأنَّ فعل الخير وقوله شجرة مورقة ثمارها طيبة، وعندما يأتي إلى الدعوة لدين الله تصبح تلك الشجرة دوحة أبدية، فقد ترتب على إسلامه إسلام من دعاهم بعد ذلك، ثم من أتى بعدهم من أتى منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، وهكذا تتضاعف الحسنات إلى أن يشاء الله، أما الدرس الثالث فهو أن الخير في هذه الأرض الطيبة وبحرها كثير، وذلك ثابت بدعاء الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ولكن علينا أن نعمل ونجدد الطاقات، وأن نغرس الخير في نفوسنا وأرضنا على حدٍّ سواء، حتى لا نكون أعداء لوطننا، بكسلنا وركودنا واتكاليتنا، بل بعلمنا ننهض، وعملنا نبني وندحر شيطان الخنوع الذي يتربَّص بأبنائنا. أما خاتمة الدروس، فهي: "افعل الخير ولا تستصغر القليل، فقليل دائم خير من كثير منقطع".

وختاما.. كما سأل رسول الله أن يدعو لنا، تذكروه بصالح الدعوات، فرحم الله مازن بن غضوبة وغفر له وجزاه عن كل عُماني خير الجزاء، وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء، وحفظ الله لبلادنا ما سأله رسوله الكريم لها، اللهم آمين.

-------------------------

توقيع: "أتهزأ بالدعاء وتزدريه...

وما تدري بما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطي ولكن...

لها أمد وللأمد انقضاء

فيمسكها إذا شاء ربي...

ويرسلها إذا نفذ القضاء".

أبيات للإمام الشافعي - رحمه الله.