الأخلاق.. "كروموسوم" الإدارة الناجحة (1)

 

 

 

عمَّار الغزالي

قد لا ينمو إلى علم البعض وظيفة "الكروموسومات" في جسم الإنسان؛ رغم ما تمثله من أهمية بالغة في حفظ النوع البشري؛ إذ هي حزمة مُنظَّمة البناء والتركيب، تحملُ الصفة الوراثية من جيل إلى جيل؛ بما يحفظ الجنس البشري ويضمن له ديمومة الحياة.. وهو الأمرُ عينه الذي تلعبه الأخلاق في منظومة الحياة من حولنا؛ باعتبارها "كروموسوم" يُشكِّل الوعي الإنساني لدى الأفراد، عبر مجموعة من القيم والمعايير تحدِّد سلوك البشر داخل أي تجمع بشري، وفق قواعد تمكِّن الفرد من التمييز بين الخطأ والصواب، وتحثُّه على المرغوب فيه من سلوكيات، فتيسِّر عملية صُنع القرار وتحديد الأهداف وما يرافقهما من اختيار وتوزيع لأولويات العمل المطلوب إنجازه.

ولا أسعى خلال هذه الكلمات البسيطة إلى منافسة مُتخصِّصي علم الإدارة العامة في آرائهم، ولكنِّي أرغب في التحدُّث عن نوع خاص من الإدارة؛ وهو "الإدارة بالأخلاق"؛ حيث إنَّ الاخلاق تُمثل واحدة من أهم ركائز ومتطلبات التعامل الإنساني؛ كالصدق والإخلاص والوفاء والانتماء والعدالة والأمانة...وغيرها من القيم النبيلة التي قامت عليها الأخلاق الإنسانية، وأنَّ الاحتكام لمثل هذه القيم يؤدي إلى تجويد الأداء وتحقيق الإنجاز والتميز، ويُسهم في دعم وتعزيز حركة الإصلاح الإداري وإعداد وتهيئة أسس سلوكية ترصد أفعال الناس في حياتهم الخاصة وفي أماكن العمل؛ بهدف الوصول والنجاح والاتصال والارتباط والمشاركة والاندماج وإعطاء الحياة قيمة وأهمية.

وهي غاية أكَّد عليها وأرسى دعائمها ديننا الحنيف؛ فالمتمعِّن في جوهر هذا الدين العظيم يجد أن سِرَّ رسالة نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- لم يكمُن في الحفاظ على بقاء المجتمع البشري فحسب، بل وإصلاحه وتطويره نحو الأفضل؛ كي يتحقق له النجاح والفلاح في الدارين؛ فجعل إصلاح أخلاقهم في مقدِّمة الغايات التي يسعى ليحققها؛ باعتبارها المرآة الصافية لسيرته ومظهرا جليا من مظاهرها، وقد أخبر النبي بذلك حين قال: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".. وتأسيسا على ذلك، واتساقا مع قضية "الإدارة بالأخلاق"، نقول: يخدعُ نفسَه من يتصوَّر أنَّ القيم الخُلقية بمعزل عن القيم الاقتصادية، بل إنَّ القيم الخُلقية هي الحاكم والآمر والموجِّه لكل شعبة من شعب الحياة الإنسانية. وديننا الحنيف لجأ إلى الوحي من أجل أن يُكوِّن هذه القيم الأخلاقية، ففي القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة بحرٌ زاخرٌ من هذه القيم الخُلقية؛ فهي من ثوابت الإسلام التي لا تتغيَّر.

وفي المقابل، تعرَّض الكثير من المفكرين الاقتصاديين لمادة الأخلاق، وعلاقتها بالإدارة التنموية الناجحة؛ منهم: الأمريكي ديك ديوس، وألكسندر تسيبكو المنظِّر في المعهد الاقتصادي للنظام الاشتراكي العالمي، وآدم سميث الملقب بـ"أبو الاقتصاد السياسي"،  وغيرهم ممن أثروا التراث العلمي بآرائهم حول هذا الموضوع الحيوي.

هذا.. وإنني على يقين تام بأننا ومنذ أكثر من 14 قرنا نفذ ديننا العظيم إلى لُبِّ المشكلة الإدارية وتطرَّق إلى جوهر القيم والأخلاقيات الإدارية فيها؛ من واقع أن التوعية الأخلاقية والتذكير بها من لزوم ما يلزم، حتى لو كانت معروفة؛ لأن التذكير بها يُقوِّم السلوك، ويضمن تحقيق الرفاه والازدهار.

وبالنسبة لـ"سلوك القيادة"، وانطلاقا من مقولة "القيادة الناجحة تحتاج إلى قيادة قوية متميزة، ومسؤولية نابعة من حرية غير مقيدة"، يُمكن قراءة العديد من الاستشهادات القرآنية العظيمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحدَّثت عن القيادة وأخلاقيات القائد باعتبار ذلك مربط فرس النجاح والتميز في أية إدارة مهما كانت؛ فقد أخبرنا القرآن الكريم حكاية عن إحدى بنات نبي الله شعيب مُتحدِّثة عن موسى عليه السلام: "قالت يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين"، وعلى لسان يوسف الصديق: "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".. وأبان الشَّرع بأن "النمط القائم على العلاقات الإنسانية" هو النمط القيادي السليم في الإدارة، قال تعالى: "فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك". كما على القائد الفذ والمدير الناجح أن يُحسن اختيار حاشيته ومساعديه في إطار أخلاقي صِرف، بما يُساعد على إحقاق الحق وتحقيق الأهداف المرجوة ونشر الخير.. فقد روى الإمام البخاري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بعث الله نبيًّا، ولا استخلف خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه؛ فالمعصوم مع عصم الله".. وهذه بالطبع فيض من غيض، إذ لا يتسع المقام لإجمال كافة تلك الاستشهادات، فتكثيف الاستدلال يُسهِّل المهمة، ويضمن النجاة من فخ "المطِّ والتطويل".

أمَّا فيما يتعلق بـ"السلوك الوظيفي"، فهو مجموعة من القيم تُحكم إيقاع عمل الموظفين داخل المؤسسة، وتطرَّقت له العديد من آي الذكر الحكيم والسنة النبوية المطهرة كذلك في أكثر من موضع؛ بما يضمن تكوين منظومة قوية متماسكة، وهو ما سنفرد له مقاماً آخر؛ نُسهب فيه استدلالا، وحديثا عن الفارق بين المسؤولية الأخلاقية والقانونية، وضرورة تفعيل ميثاق الشرف المهني وتحويله من الترف الذهني إلى الواقع العملي؛ ليُعين على إكمال أعمدة البناء لمنظومة اقتصادية أساسها الأخلاق والقيم.

... إنَّ "الإدارة بالأخلاق" مُتطلب حقيقي للإتقان وللوصول إلى القمة، نحتاج إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى، في ظل ما نعيشه من مرحلة تحديثية وتطويرية جديدة، تتطلب مجموعة من القيم والرؤى التطويرية، وأن يتسلم المواقع الأمامية في المجتمع من يشكلون عاملَ القدوة في ممارستهم الإدارية؛ فالقيم موضع احترام من قبل الجميع وهي التي يلتقي حولها الناس كجماعات، وهي التي تدفعهم للعمل معاً بغية الوصول إلى أهداف مشتركة، كمسؤوليات متعدِّدة المستويات؛ بدءاً من المسؤولية الذاتية والمسؤولية الأخلاقية في الولاء للمُثل العليا والمسؤولية المهنية والمسؤولية العامة، وصولا إلى المسؤولية الوطنية والمسؤولية الدولية، كمضمون لأي مشروع تحديثي وتطويري ننشده في المستقبل القريب، وكما قال لورنس كراوس: "إن العقل المنفتح حقا يعني أن نجبر خيالنا ليتناسب مع الأدلة الواقعية وليس العكس"، وإشكاليات الواقع كلها تقول بأن المستقبل لـ"الإدارة الأخلاقية".