"ما غيرك أحد(ن) ألبي له"

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

 

يتناهى إلى سمع الذاكرة صوت فنان العرب أبو نورة شاديا بأغنيته الشهيرة "أيوه قلبي عليك التاع" والتي ألهبت قلوب العشاق منذ عام 1970م، ولازال لهذه الأغنية رونقها في حناجر الأجيال التي أتت بعد هذا الألبوم، حيث أن الشاعر المرهف الحس الأمير خالد الفيصل وصف روعة الاتصال الروحي بين المحب والحبيب عندما قال: (لبيه يا بو عيون وساع، وما غيرك أحد(ن) ألبي له) وهو هنا بالطبع يقصد حبيبته من بين البشر كلهم، فخصها بهذا الفعل من الاستجابة والانقياد، وهذا الشعور بين إنسان وآخر، وهو تمثيل صادق مصغر جدا يكاد يقاس بنانومتر المشاعر، حيث أن هنالك موطن أطهر وأروع وأصدق وأبلغ لهذا الشعور نعيش ترانيمه هذه الفترة..

 

خص الله تعالى هذه الليالي بالذكر في محكم آياته عندما أقسم بها جل وعلا: {وليال عشر} الفجر ٢، وقد عشنا -ولازلنا- أجواء هذه الليالي والأيام الجميلة، وردتنا الرسائل المذكرة لنا بضرورة التكبير والتهليل والحمد فيها، فالملبون لله في شعاب مكة وحول الكعبة يصدعون بأجمل ضجيج يلمس النفس ويطهرها من أسقام الدنيا، يودعوننا ويذهبون إلى تلك البقاع الطاهرة، ويخلفون في أرواحنا شوقا وحنينا لزيارة تلك الربوع المقدسة، ورغم أننا لسنا ضمن تلك الوفود البيضاء، إلا أننا ونحن في ربوع أوطاننا نتذكر مناسكهم بالتلبية والتكبير والأضاحي...

 

إن الركن الخامس من أركان الإسلام ((الحج)) هو شعار التوحيد من أول لحظة يتلبس به الحاج، قال جابر بن عبد الله في وصف حج النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " رواه مسلم، وفي هذا تربية للنفس على توحيد الله والإخلاص له، التلبية هذا الطقس العجيب، والإذعان المشاعري الاختياري بكافة الجوارح، ماذا يعني؟ تحمل التلبية معان روحانية عديدة منها أن " لبيك اللهم لبيك " بمعنى إجابة بعد إجابة، وكُررت إيذانا بدوام الإجابة واستمرارها، كما أن " لبيك اللهم لبيك" إعلان المؤمن أي انقدت لك يا الله بعد انقياد، والتلبية مأخوذة من لَبّ بالمكان، إذا أقام به ولزمه، ومعناها هنا أنا مقيم على طاعتك ملازم لها يا ربي، فتتضمن إلتزام دوام العبودية،  كذلك ومن معاني التلبية أيضا، حبا لك يا الله بعد حب، من قولهم " امرأة لَبًة " إذا كانت محبة لولدها، ولا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه، وهي تتضمن الإخلاص مأخوذ من لُبِّ الشيء، وهو خالصه، ومنه لُب الرجل عقله وقلبه، و تتضمن الاقتراب مأخوذة من الإلباب وهو الاقتراب، أي اقتراب إليك بعد اقتراب ، كما أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها...

 

وتشتمل التلبية على حمداً لله -إن الحمد- الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله، وعلى الاعتراف لله بالنعم كلها -والنعمة لك-، ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك يا الله، وأنت موليها والمنعم بها علينا، وعلى الاعتراف بأن الملك كله لله وحده -والملك-، فلا ملك على الحقيقية لغيره، فيعيش الحاج وهو يلبي شعورا بترابطه مع سائر مكنونات الكون، حيث تتجاوب معه في عبودية الله وتوحيده، يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو صدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا " يعني عن يمينه وشماله، رواه الترمذي...

 

والتلبية هذا الركن المهم من أركان حج بيت الله الحرام، والذي تصدح به القلوب قبل الحناجر هو حث لنا على تلبية دعوة الله عز وجل في كل أمر من أمور حياتنا كلها، فعندما يطلبك حبيبك في موقع طيب، يحب أن يرى تنفيذ قولك بحبه بالفعل، وأن يجدك ملبيا دعوته حيثما وكيفما طلبك، ولنسلم بأن الفرائض هذه واجبات حتمية لا جدال في تنفيذها والقيام بها، لكن أليس من الجميل أننا عند كل صلاة أو صيام أو زكاة أن نقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك سأحسن أداء الفريضة وسأغلفها بالحب والشوق إليك، لبيك في كل موضع تطلبني فيه، فأنا أبحث عن رضاك حتى ألقاك، وتأتي مع الفرائض أمورنا الدنيوية كلها، ويأتي مقام ترتيب العلاقات بيننا وبين من حولنا وما حولنا، فعلى سبيل المثال -ﻷن المجال محدود هنا بأسطر معدودات- علاقتنا بوالدينا، فهو القائل عز قائلا عليما: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} الإسراء ٢٣، وهنا نجد أنه لزاما علينا تلبية هذا الأمر من إحسان لوالدينا في القول والفعل لنثبت محبتنا له تعالى وأننا لا نعبد سواه، لذلك نلبي له من خلال برنا بوالدينا في هذا الموضع، وكذلك توصيف العلاقة بين الزوجين في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم ٢١، فهو تعالى شرع هذه العلاقة للسكن والراحة، وجعل المودة والرحمة بين هذه النواة المجتمعية الصغيرة، لذلك علينا أن نلبيه بطاعة، وأن ننشر التواد والتراحم داخل الدار بين الزوجين ومع الأبناء لكي نخلق مجتمعا قويا متماسكا، وفي مثال أخير أحب اللجوء إلى ركنه دائما في فسيفساء الحياة طلبه تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة ١٩٥، فقد أوضح بجلاء أنه تعالى يحب المحسنين، وأن الإحسان سبب للوصول إلى حبه تعالى لنا، فعجبا لماذا لا نسرها في أنفسنا ونقول: "لبيك يا رب بإحسان في عبادة، أو إحسان في قول، أول إحسان في تعامل، أو إحسان في إخلاص في عمل"، ومع استمرارنا سيصبح كل موضع وكل نفس هو تلبية بإحسان فيه، فهو الحبيب الواحد الأحد الذي لا يلبى بعبادة غيره....

وأخيرا "نعمتوا ببركات العيد وعساكم من الفائزين والغانمين".

 

 

---------------------------------------------

توقيع: "حظيت يا عود الأراكِ بثغرها.. أما خفت يا عود الأراك أراكَ

لو كنت من أهـل القتال قتلتك.. ما فـاز منـي يا سِواكُ سِواكَ" علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.