الإحالة إلى التقاعد بنظرة..!

 

عائشة البلوشيّة

 

متى يتخذ الفرد منا قرار التقاعد؟ ربما الإجابة الحاضرة هي عندما يحس المرء بالتعب البدني، فيقرر الترجّل من فوق السرج ليستريح من عناء المشوار، ولكن هناك حالة أخرى وهي أنّ المرء قد يحس بالإنهاك النفسي أو العصبي أو كليهما، فيضيق ذرعًا بالبيئة المحيطة به، فيقرر الفرار بما بقي له من عمر ليقضيه خارج مؤسسته، وهناك حالة أخرى وهي الإحساس بأنّه مليء بطاقة العطاء ولكن ربّ عمله يهمشه، أو أنّه تعرّض للنسيان لسبب لا يد له فيه، فيقرر التقاعد ﻷنّه وصل إلى المدة الزمنية التي تخوله لطلب هذا الشرف، إن حال الموظف أو صاحب المهنة تشبه تمامًا حال الإنسان في دورة حياته اليومية، فالشخص منّا يكبر ويظل يعمل ليبني أسرته، ويسعى في الأرض ليقينه بأنّه معتمد عليه، وأنّ المسؤولية الملقاة على عاتقه كلجام ملزم له بالكد والتعب، ثم يتقدّم به العمر، ويبدأ في الركون إلى العزلة أو ملازمة الفراش، ولكنّه يظل يتشبث بالحياة حتى وإن بلغ من الكبر عتيا، ويظل يبحث عن بريق الحاجة له في عيون من حوله ليستمد منها طاقة البقاء والتشبث بالحياة فيما بقي له من عمر.

أنظر إلى عقارب الساعة فأجدها تلهث راكضة نحو الثالثة صباحًا، فأوجه نظري نحو منظم ضربات القلب الذي يعمل بوجل، فالقلب الذي يديره ليس أي قلب، المحاليل تتسرب في تلك الأوردة الرقيقة من الجهتين، أرقب ذلك الوجه الملائكي بعينين مغرورقتين بالدموع، بدأت المؤشرات على الشاشة المعلقة إلى جانب السرير بالتأرجح والتخبط، ليصدر الجهاز صوت إنذار جعلني أقفز من جلستي المراقبة بحذر، فأهرول راكضة نحو سريرها كما فعلت الممرضات، مؤشر نبضات القلب مستقيم الخط!، رغم أنّ مؤشر الضغط والتنفس والأوكسجين يمضيان بتعرج مريح هبوطا وصعودا، فأمسكت بيدها الباردة كصقيع كسى صفحة نهر جليدي، لتفتح عينيها بوهن واضح، وتكتشف الممرضات زعزعة اللصقة الخاصة بمؤشر نبضات القلب من مكانها، فيعدنها كما كانت ويعود المؤشر الأخضر راسمًا تلك الشخبطات المحبوبة، ونبدأ في تدفئة يديها وأقدامها، وتدخل تلك الحبيبة في نوبة نوم جديدة بعد أن هدأ روعها، كانت هذه هي حالة جدتي الحبيبة بعد أن نقلتها سيارة الإسعاف من مستشفى عبري المرجعي إلى المركز الوطني لطب وجراحة القلب في المستشفى السلطاني، وبعد التشخيص بالقسطرة اتضح انسداد بنسبة مفزعة في الشريان التاجي، وعدة انسدادات في الجهة اليسرى من القلب وإن كانت بنسبة أقل.

طوال الوقت كانت جدتي تبحث عن شرح لحالتها في أعيننا، وتسوء حالتها الصحية كلما رأت الحزن في أي إشارة من أي منّا، ولا أخفيكم سرا إن قلت لكم بأنّ التظاهر بأنّ كل شيء على ما يرام ليس بالأمر الهيّن، بل هو وربّي كأنك تشق قلبك إلى نصفين، ولكنني كلما استرجعت كلام الطبيب الألماني د. محمد هاشمي -صديق الأسرة- بأنّ حالة الأسرة النفسية هي بمثابة 50% من العلاج للمريض، أرتدي لباس الصبر وأبتسم لها بحنان معلنة لها بأنّ كل شيء طيب، وأننا ننتظر عودتها للعراقي، فالعمّال سيبدأون جداد النخل قريبا، والكل ينتظر عودتها، وأنّها يجب أن تعيننا حتى تتحسن وتخرج من المشفى، وأصبحنا جميعا نتبع نفس الأسلوب معها، وكان للأمر مردوده الإيجابي، وبالرغم من بعض هنات الغضب التي كانت تعتريها ﻹحساسها بأننا نخفي أمرا جللا، إلا أنّها تفهمت برضا تام وإيمان كامل حالتها الراهنة عندما شرحت لها بالتفصيل بعد خروجها من المستشفى، فجدتي الحبيبة ذكيّة جدا، وترفض أن يمر عليها الأمر دون أن تحاط بكافة تفاصيله، والحمد لله أنّ حالتها مستقرة مع الأدوية وقائمة المحاذير، رغم أنّها خرجت دون أن يتم إزالة أي من الانسدادات في شرايينها الرئيسية بسبب صعوبة ذلك، ولكننا بتنا نعلم حالتها جيدا، ونحاول قدر الإمكان إحاطتها بالسعادة.

المركز الوطني لطب وأمراض القلب بالمستشفى السلطاني لعمري من أكفأ المراكز على مستوى المنطقة، ففيه من الكفاءات والكفايات ما يؤهله لينافس أكبر مراكز العالم ولله الحمد، وعلينا التحلي بالصبر مع الطبيب الذي يتعامل مع أهم جزء في الجسد، وأن نطرح عليه الأسئلة الكافية لنفهم حالة مرضانا عندما يأتي لزيارتهم، وألا نستعجل الحكم بأنّه لا يحس أو لا يهمه أو أنّه يتعامل مع المريض ببرود،  فقد كنت أعرف أنّ الطبيب يتعب جدًا في ممارسة مهنته، ولكنني أدركت عن قرب بأنّه قد لا يتمكن من تناول وجبات غذائه -كما نفعل نحن- بسبب ركضه بين غرفة العمليات وحالاته الطارئة، وفي أحايين كثيرة تمر عليه الساعات المنهكة دون نوم أو راحة، فكم هي الحالات التي رأيتها خلال الأيام القلائل هناك، وكم هو عدد الكبار والأطفال والشباب الذين يتم التعامل مع كل واحد منهم وكأنه الحالة الأهم هناك، ومن هذا المنبر أتوجه بالأصالة عن نفسي ونيابة عن كل فرد من أفراد أسرتي بجليل الشكر والامتنان لجميع منتسبي وزارة الصحة الموقرة، وإلى مستشفى عبري المرجعي والمركز الوطني لطب وجراحة القلب بالمستشفى السلطاني، ﻷنّهم لا يألون جهدا في خدمة كل مريض دون استثناء، ويبذلون ما يستطيعون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأخص بالشكر د. محمد المخيني وفريق عمله الرائع، والبروفيسور أحمد البلوشي، وجميع طاقم التمريض في قسم العناية الفائقة والمتوسطة، ورجال الأمن بذلك المركز، ﻷنّهم بشر قبل أن يكونوا ما هم عليه من مختلف المهن، وﻷنّ صحة المريض هي أولوية قصوى للجميع، فبحجم العطاء الذي يعتمر قلوبكم نقول لكم ((شكرا))، وأسأل الله أن يرحم الشيخ سعود بهوان وأن يجعل مثواه الجنة على هذا المركز الذي تبرع به قبل وفاته، إسهاما منه في رفد وطنه بالجليل من الخدمات، ضاربا به المثل للقطاع الخاص ﻷن يحذوا الجميع حذوه.

خلاصة الحديث هو أننا يجب أن نتعامل مع الكبير في السن بحب -وأي مريض من أي عمر-، وأن نحيطه بالإحساس بأننا دوما سنكون في حاجة إليه، وأن نفرد له الوقت والمساحة الكافيتين عندما نكون معه، ونتبادل معه الحديث والنقاش، أعي جيدًا الارتباط الغريب بوسائل التواصل الاجتماعي الذي طرأ على عصرنا الحاضر، وأصبحنا نتواصل افتراضيًا مع العالم، وسحبنا أنفسنا من التواصل الواقعي والتواصل مع أقرب النّاس إلينا، ولكننا عندما نكون بالقرب منهم لنتصور أنفسنا في مكانهم، ونتساءل عن بشاعة الإحساس بالإهمال العاطفي، ونتذكر بأنّه برحيلهم من عوالمنا سوف نفقد معين خبرات متراكمة مجانية، كانت متاحة لنا فأهملناها، لنمتعهم بوجودنا ونرسم الضحكة والفرحة على وجوههم وقلوبهم ﻷنّهم يسعدون بتواصل ذريّاتهم وأقاربهم، ويفتخرون بأننا نفتخر بوجودهم بيننا، ولنتذكر دوما بأنّ الأيام دول.

توقيع: "تشبثوا بهم ولا تحيلوهم للتقاعد قسرًا، فجميعهم يرى أنّ الحياة -وإن كانت قصيرة-نعمة، ويوقنون بأنّ الموت -على صعوبته- رحمة".