مُعلِّمون تحت التنفيذ!

 

سُلطان الخَرُوصي

مع إطلالة العام الدراسي الجديد، اكتسى الوطن بكل أطيافه حُلَّة الابتهاج والسرور، وتباينتْ عبر المذياع والتلفاز وبرامج التواصل الاجتماعي التهاني والتبريكات والدعوات بأن يكون هذا المقدم الميمون حافلا بالجدِّ والاجتهاد والإبداع، وبين هذا الزِّحام اصطفَّت ثُلةٌ من الأقلام الصفراء لتُغدِق على صفحات العالم الافتراضي والصحافة المطبوعة بِضع مقالات تتضلَّع برتوش تحوي الغثَّ والسمين، فيُنصِّب نفسَه مُعلِّما ناصحا للآخرين وهو بعيد عن الميدان التربوي وكأنه يخطب الجمعة بين الناس في يوم السَّبت!، وهناك فئة خاصة جدا تنتقي مثل هذه الأوقات لتتسلق على رقاب العاملين بالميدان التربوي من خلال بعض الدعوات والكتابات التي تقزِّم من الدور الرائد لشعلة العلم والمعرفة، فتجده يلقى التهم جزافا على هذه الثلة الطاهرة من المجتمع بأنهم أساس عدم التنمية والتطوير في التعليم بالسلطنة، وأنهم يعملون دون إخلاص وإتقان، وأنهم يضربون أخماسا بأسداس في ضياع أجيال الوطن وثروته الخالدة وغثاء كثير كزبد البحر، ومثل هذه الأقزام لا ينظر إليها كأحد الأضلع الرئيسية في التنمية المستدامة بالدولة.

إنَّ المتتبِّع لمسيرة التعليم، وما تقدمه المنظمات العالمية من مُؤشرات حول تنمية المعرفة كأحد أهم أضلع تطور الدول ونماء اقتصادها، يلحظ أنَّ هذا المسار يسير ببطء شديد، بل يوصف أحيانا بالحِراك شبه المنعدم؛ فبناء منظومة التعليم تتطلب جهدا فكريا وماليا كبيرين، إضافة إلى تطوير كثير من القرارات السياسية لخدمة هذه المؤسسة وهذا العنصر الحيوي، كما يتطلب إصلاحا اجتماعيا وثقافيا حقيقيين يَخَاَلهمَا التوافق بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني؛ فالعالم اليوم يتحدث بقوة الاقتصاد والذي لا يتأتَّى إلا بجودة التعليم وانتهاج سياسة تطبيق "اقتصاد المعرفة" بكل ما يحمله هذا المفهوم من دلالات حقيقية، وحتى لا نغرِّد خارج السِّرب ونتهم بالمبالغة  في وضع صورة سوداوية حول سحلفائية تطور التعليم في الوطن العربي بشكل خاص والعالم بشكل عام، دعونا نتطرق قليلا إلى التقرير العالمي الأخير لرصد التعليم والذي جاء في 55 صفحة تحت عنوان "التعليم والتعلّم.. تحقيق التعليم للجميع"، والصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة؛ حيث حاول التقرير رصد درجة تحقق المعايير والأهداف العالمية التي وضعت لتجويد وتنمية التعليم في العالم في العام 2000 ضمن سلسلة تحقيق مفهوم التنمية المستدامة للبشرية، وتطرقت تلك الأهداف إجمالا إلى نوعية التعليم، وتحقيق العدالة والمساواة، وتقليل نسبة الأمية، والتحاق الأطفال بالمدارس الدنيا، ورفع نسبة الإنفاق على التعليم، وخلق كوادر تعليمية مستقرة وعلى مستوى رفيع من الخبرة والأداء.

ووضع التقرير فترة زمنية متوقعة لتحقيق هذه الأهداف امتدت لخمسة عشر عاما  2000-2015، وحاول الإجابة عن السؤال الموجز والمركز: "هل نجحنا في تحقيق هذه الأهداف؟"، وبمتابعة للمؤشرات العالمية توصل التقرير إلى أن العالم "لم ينجح" في ذلك وأورد تفاصيلا كثيرة حول المؤشرات العالمية في مختلف الموضوعات منها ما يتصل بطبيعة المناهج الدراسية وآلية بنائها، وجودة المعارف المقدمة، وسبل اكتساب المهارات، ومعدلات ضخّ بعض الدول الأموال في النزاعات الداخلية والصراعات الخارجية والقطاعات العسكرية على حساب التعليم،  كما تطرق التقرير إلى ترتيب الدول العربية في تنمية التعليم والذي تجلّى في عشر دول فقط مع الأخذ بعين الاعتبار أنها لا تزال متأخرة عالميا، فجاءت مرتبة عربيا كالتالي: قطر، الإمارات، لبنان، البحرين، الأردن، السعودية، تونس، المغرب، الجزائر، موريتانيا، مصر، والسؤال الأهم الذي نطرحه هنا: أين موقع عمان في هذه القائمة؟

ومن أهم المؤشرات التي أظهرها التقرير حول تراجع تنمية التعليم في العالم هو إهمال مؤسسات الدولة للمعلم وجعله في آخر الركب وهو أساس العملية التربوية، وقد دعا التقرير إلى ضرورة تحرير طاقات المعلمين لحل أزمة التعليم وضرب مثالا على ذلك في جمهورية كوريا التي تمنح المعلمين ذوي الخبرة أجورا وحوافز مضاعفة عن بقية زملائهم في سبيل التنافس في الأداء والابتكار التربوي، ومن السياسات التي ينبغي على القائمين بحقل التعليم تطبيقها في هذا المجال ضرورة توفير الكادر التدريسي المجزي في جميع المدارس بصورة تُسهم بدرجة فاعلة في تحقيق فلسفة التعليم الوطنية، علاوة على ضرورة اجتذاب المعلمين في الحقل التربوي من خلال التدريب والتأهيل وتجديد مداركهم ومعارفهم ومهاراتهم، أضف إلى ذلك انتقاء نوعية المشرفين بحيث يكتسي المعلمون منهم خبرات عصرية ومعلومات حديثة، لا أن تقتصر مهامهم  كمفتش وباحث عن السلبيات والقصور والجانب السلبي، كذلك من الضرورة بمكان تحقيق الاستقرار النفسي والوظيفي للمعلم من حيث مكان العمل وطبيعة الحوافز؛ فوضعه في صورة مبهمة حول فترة بقائه في الغربة بعيدا عن أهله وأحبائه لخمسة أعوام قابلة للزيادة إلى أجل غير مسمى وإعادة توزيعه بين فترة وأخرى يبعث في نفسه نوعا من البؤس والضجر وفقد لذة التدريس والإبداع.

كما أنَّ اعتمادَ هيكل تحفيزي تنافسي في السلك التدريسي مهم جدًّا لبثِّ روح التنافسية والجدية والابتكار نحو خطط تدريسية حديثة، وتقديم برامج تعليمية رائدة، بينما وضع المعلم في قالب محدود بأنك ستظل على ما أنت عليه حتى الموت أو التقاعد لا يخلق روح التجديد والتميّز بل على العكس يولد وسطا بائسا ومحبطا قائم على الروتين القاتل، ومن السياسات المفترض وضعها "حوكمة" المعلمين بحيث أنَّ المجتمع المدرسي له خصوصيته عن بقية الأحكام المدنية، فليس من الصواب إن حصلت بعض السلوكيات بين العاملين بالحقل التربوي وبين المتعلمين أو أولياء الأمور أن تحال إلى الجهات القضائية والادعاء العام، بل من الضرورة أن تتمتع المؤسسة التربوية بمحاكم ذات طابع خاص يعطي هذه المؤسسة استقلاليتها في معالجة بيتها الداخلي، كما يحتفظ فيها بقيمة المعلم بين أوساط المجتمع.

التعليم مشروع حيوي عظيم يتطلب من الجميع الشعور بالمسؤولية المنوطة بهم، فما وصلت فلندا، واليابان، وكوريا، والولايات المتحدة الأمريكية للأدوار المتقدمة في صناعة التعليم إلا بتكاتف الجميع، نحن بحاجة إلى دعم المؤسسات والأفراد والمجتمع للمعلم وتحقيق الرضا الوظيفي والروحي فيما أوكل إليه من رسالة شاقة، لسنا بحاجة إلى ضربه بسياط الفشل والتقهقر دون أن تكون بين أيدينا المؤشرات العالمية، والتي على ضوئها يُمكننا أن نحلل مكامن ضعف تنمية التعليم في البلاد.. وكل عام والجميع بألف خير!

sultankamis@gmail.com